19- وجوب تقليد المجتهد
وجوب تقليد المجتهد
[ 7 ] مسألة 7 : عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل((1)) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بإباحته أو بوجوبه أو حرمته فلا ، لعدم كونها مورداً لاحتمال العقاب كي يجب دفعه لدى العقل بالتقليد أو بغيره لجزمه بعدم العقاب أو بوجوده ، فعلى ذلك لا حاجة إلى التقليد في اليقينيات فضلاً عن الضروريات ، هذا تمام الكلام في الاحتياط ويقع الكلام بعد ذلك في التقليد .
مباحث التقليد
(1) لم يرد بذلك البطلان الواقعي بأن تكون أعمال العامي من غير تقليد ولا احتياط فاسدة وإن انكشفت صحتها بعد ذلك ، كما إذا بلغ رتبة الاجتهاد وأدى نظره إلى صحتها ، بل المراد به البطلان عقلاً وعدم جواز الاقتصار على ما أتى به من دون تقليد ولا احتياط ، وذلك لأن قاعدة الاشتغال تقضي حينئذ ببطلانه . مثلاً إذا عقد على امرأة بالفارسية من دون أن يعلم بصحته أو يقلّد من يفتي بها ، لم يجز له أن يرتّب على المرأة آثار الزوجية . وكذا إذا غسل المتنجّس مرّة واحدة وهو لا يعلم كفايتها لأنه ليس له أن يرتّب عليه آثار الطهارة لاحتمال بطلان العقد واقعاً ، وعدم صيرورة المرأة بذلك زوجة له أو عدم طهارة المغسول وبقائه على تنجسه ، فحيث إنه لم يحرز صحة العقد أو كفاية المرّة الواحدة ، فقاعدة الاشتغال تقتضي بطلانه وعدم كفاية الغسل مرة مع قطع النظر عن الاستصحاب الجاري فيهما .
وعلى الجملة إذا لم يحرز المكلف صحة عمله واحتمل معه الفساد ، فمقتضى قاعدة الاشتغال أعني حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، عدم ترتيب آثار الصحة عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بمعنى أنه لا يجوز الاقتصار عليه في مقام الامتثال ما لم تنكشف صحته .
ــ[58]ــ
[ 8 ] مسألة 8 : التقليد هو الالتزام((1)) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنى التقليد
(1) قد عرّف التقليد بوجوه :
منها : أن التقليد أخذ فتوى الغير للعمل به .
ومنها : أنه الالتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يعمل به بعد ولا أخذ فتواه .
ومنها : غير ذلك من التفاسير .
والتحقيق : أن التقليد عنوان من عناوين العمل وطور من أطواره ، وهو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل ، بأن يكون قول الغير هو الّذي نشأ منه العمل وأنه السبب في صدوره ، فإن المقلّد في أعماله يتّكي ويستند إلى قول الغير فهو المسؤول عن وجهه دون العامل المقلّد .
معنى التقليد بحسب اللغة
ويرشدك إلى ذلك ملاحظة اللغة ، حيث إن التقليد بمعنى جعل الشخص أو غيره ذا قلادة فيقال : تقلد السيف أي ألقى حمالته في عنقه ، ومنه تقليد البدنة في الحج لأن معناه أنه علّق بعنقها النعل ليعلم أنها هدي فيكف عنها ، وفي حديث الخلافة : «قلّدها رسول الله علياً» (2) ، أي جعلها قلادة له ، فمعنى أن العامي قلّد المجتهد أنه جعل أعماله على رقبة المجتهد وعاتقه وأتى بها استناداً إلى فتواه ، لا أن معناه الأخذ أو الالتزام أو غير ذلك من الوجوه ، لعدم توافق شيء من ذلك معنى التقليد لغة . مثلاً إذا فسّرناه بالالتزام رجع معنى تقليد المجتهد إلى أن العامي جعل فتوى المجتهد وأقواله قلادة لنفسه ، لا أنه جعل أعماله قلادة على رقبة المجتهد . وقد عرفت أن المناسب لمعنى التقليد هو الثاني دون الأول ، فإن لازمه صحة إطلاق المقلّد على المجتهد دون العامي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل هو الاستناد إلى فتوى الغير في العمل ، ولكنه مع ذلك يكفي في جواز البقاء على التقليد أو وجوبه تعلم الفتوى للعمل وكونه ذاكراً لها .
(2) كذا في مجمع البحرين في مادة (قلّد) .
ــ[59]ــ
معنى التقليد بحسب الأخبار
ثمّ إن ما ذكرناه في معنى التقليد ، مضافاً إلى أنه المناسب للمعنى اللغوي قد اُشير إليه في جملة من الروايات كمعتبرة عبدالرحمان بن الحجاج قال : «كان أبو عبدالله (عليه السّلام) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبدالله (عليه السّلام) : هو في عنقه قال أو لم يقل ، وكل مفت ضامن» (1) .
وكالأخبار المستفيضة الدالة على أن «من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به» (2) .
ويؤيد ذلك ما ورد في الحج «من أن كفارة تقليم الأظافر على من أفتى به» (3) لا على المباشر .
ومن ذلك يستكشف بوضوح أن ما ذكرناه في معنى التقليد هو المعنى المتفاهم العرفي من لفظة التقليد عند إطلاقها ، بل عليه جرت اللغة الدارجة في عصرنا حيث ترى يقولون : قلّدتك الدعاء والزيارة . إذن الاصطلاح الدارج واللغة والعرف متطابقة على أن التقليد هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل ، هذا .
إلاّ أن صاحب الكفاية (قدّس سرّه) لم يرتض بذلك وذهب إلى أن التقليد هو الأخذ والالتزام ، ومنع عن تفسيره بالعمل استناداً إلى رأي الغير ، نظراً إلى أن التقليد إذا كان نفس العمل على طبق فتوى الغير فأوّل عمل يصدر من المكلف يصدر من غير تقليد ، لأن ذلك العمل غير مسبوق بالتقليد الّذي هو العمل ، مع أن العمل لا بدّ أن يكون مسبوقاً بالتقليد ، لأن المكلف لا بدّ أن يستند في أعماله إلى حجة فكما أن المجتهد يستند إلى اجتهاده وهو أمر سابق على عمله ، كذلك العاميّ لا بدّ أن يستند إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة 27 : 220 / أبواب آداب القاضي ب 7 ح 2 .
(2) ورد بهذا المضمون في وسائل الشيعة 27 : 20 / أبواب صفات القاضي ب 4 .
(3) ورد بهذا المضمون في وسائل الشيعة 13 : 164 / أبواب بقية كفارات الاحرام ب 13 .
ــ[60]ــ
التقليد ويلزم أن يكون تقليده سابقاً على عمله (1) .
ويرد عليه : أن التقليد كما مرّ لون وعنوان للعمل ، فهو أمر مقارن معه ولا يعتبر فيه السبق زماناً ، فإذا عمل المكلّف عملاً مستنداً إلى فتوى الغير ، كان ذلك العمل مقروناً بالتقليد لا محالة وهو كاف في صحته ، ولا دليل على اعتبار سبق التقليد على العمل .
وقد يورد على تفسير التقليد بما ذكرناه ، بأن ذلك مستلزم للدور فإن مشروعية العبادة وصحتها من المقلد تتوقف على تقليده ، إذ لو لم يقلّد لم يتمكن من الاتيان بها بما أنها مأمور بها حتى تقع عبادة ، فلو كان تقليده متوقفاً على إتيانه بالعبادة لعدم تحقق التقليد إلاّ بالعمل ، لدار .
ويندفع بأن المتوقف عليه ، غير المتوقف عليه ، وذلك لأن مشروعية أي عمل عبادي أو غيره لا يمكن أن تكون ثابتة بالتقليد ، لعدم كونه مشرعاً في الدين . بل إنما تتوقف المشروعية على الدليل ولو كان هو فتوى مقلده . نعم ، إذا أتى المكلف بالعمل بعد العلم بمشروعيته مستنداً فيه إلى فتوى المجتهد ، إنطبق عليه التقليد لا محالة . فالتقليد وإن كان متوقفاً على العمل إلاّ أنه لا يتوقف على التقليد بوجه ، فلا توقف في البين ، وعلى الجملة أن التقليد إنما يتحقق بالعمل على قول الغير ولا توقف له على الالتزام .
معنى التقليد عند اختلاف الفتاوى
وقد يقال : إنه إذا تعدد المجتهدون واختلفوا في الفتوى ، توقف التقليد على الالتزام بالعمل على إحدى الفتويين أو الفتاوى ، أو أن التقليد حينئذ ينتزع عن نفس الالتزام والدليل على وجوبه حكم العقل بلزوم تحصيل الحجة على امتثال الأحكام الشرعية .
بل عن بعضهم أن الخلاف في أن التقليد هو العمل أو الالتزام إنما هو فيما إذا اتحد المجتهد أو تعددوا واتفقوا في الفتوى ، وأما مع التعدد والتعارض بين الفتويين أو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 472 .
ــ[61]ــ
الفتاوى ، فلا ينبغي التردد في أنه يجب الالتزام بإحدى الفتويين أو الفتاوى ، لأن موضوع الحجية لا يتحقق حينئذ إلاّ بالالتزام ، وهو مقدمة لتطبيق العمل على طبقها والوجه فيه : أن الحجة يمتنع أن يكون هو الجميع لاستلزامه الجمع بين المتناقضين ، ولا واحد معيّن لأنه بلا مرجح ، كما يمتنع الحكم بالتساقط والرجوع إلى غير الفتوى لأنه خلاف السيرة والاجماع ، إذن يتعيّن أن تكون الحجة ما يختاره المكلّف ويلتزم به وحاصله : أن الحجة في مفروض الكلام هي إحدى الفتويين أو الفتاوى تخييراً والتمييز حينئذ بالاختيار والالتزام ، هذا .
ويأتي منّا إن شاء الله في المسألة الثالثة عشرة عند تعرض الماتن (قدّس سرّه) لمسألة ما إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة وحكمه فيها بالتخيير : أن الحجية التخييرية ـ بأي معنى فسّرت ـ أمر لا محصل له في المقام ، وأن الوظيفة حينئذ هو الاحتياط لسقوط الفتويين أو الفتاوى عن الحجية بالتعارض ، إذن لا توقف للتقليد على الالتزام فضلاً عن أن يكون التقليد نفس الالتزام عند تعدد المجتهد واختلافهم في الفتوى .
ثمّ إن التكلم في مفهوم التقليد لا يكاد أن يترتب عليه ثمرة فقهية ، أللّهم إلاّ في النذر ، وذلك لعدم وروده في شيء من الروايات . نعم ، ورد في رواية الاحتجاج «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» (1) إلاّ أنها رواية مرسلة غير قابلة للاعتماد عليها . إذن فلم يؤخذ عنوان التقليد في موضوع أي حكم لنتكلم عن مفهومه ومعناه . وأما أخذه في مسألتي البقاء على تقليد الميت ، والعدول من الحي إلى غيره فهو إنما يتراءى في كلمات الأصحاب (قدّس الله أسرارهم) حيث عنونوا المسألتين كما نقلناه ، ومن المعلوم أنهما بهذين العنوانين غير واردتين في الأخبار .
نعم ، سبق إلى بعض الأذهان أن حكم المسألتين مبني على معنى التقليد فيختلف الحال فيهما باختلافه ، لأنا لو فسّرناه بالالتزام وفرضنا أن المكلف إلتزم بالعمل بفتوى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة 27 : 131 / أبواب صفات القاضي ب 10 ح 20 .
ــ[62]ــ
مجتهد ثمّ مات ذلك المجتهد ، فله أن يعمل على فتاواه لأنه من البقاء على تقليد الميت وليس تقليداً إبتدائياً له ، وهذا بخلاف ما إذا فسّرناه بالاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل ، لأنه حينئذ من تقليد الميت ابتداءً لعدم استناد المكلف إلى شيء من فتاوى المجتهد الميت حال حياته ، وإنما التزم بأن يعمل على طبقها فلا يجوز أن يرجع إلى الميت حينئذ . وكذلك الكلام في المسألة الثانية لأنه إذا التزم بالعمل بفتيا مجتهد ـ وفسّرنا التقليد بالالتزام ـ حرم عليه العدول عن تقليده لأنه قد قلّده تقليداً صحيحاً ولا مرخّص له للعدول ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا إن التقليد هو الاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل لأنه حينئذ لم يتحقق منه تقليد المجتهد ليحرم عليه العدول ، بل لا يكون رجوعه لغيره عدولاً من مجتهد إلى مجتهد آخر ، هذا .
ولكنّا سنبيّن ـ قريباً ـ أن المسألتين لا يختلف حكمهما بالاختلاف في معنى التقليد لعدم ابتنائهما عليه حيث إن لكل من المسألتين مبنى لا يفرق فيه الحال بين أن يكون التقليد بمعنى الالتزام أو بمعنى آخر كما يأتي في محلّه ، إذن صحّ ما ذكرناه من أن عنوان التقليد لم يرد في شيء من الأدلة حتى نبحث عن مفهومه .
بقي شيء وهو أن مسألة التقليد ليست تقليدية وتوضيحه : أ نّا قد أسبقنا أن كل مكلّف يعلم علماً اجمالياً بثبوت أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة من وجوب أو تحريم ، وبه تنجّزت الأحكام الواقعية عليه ، وهو يقتضي الخروج عن عهدتها لاستقلال العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف المتوجّهة إلى العبد من سيّده والمكلف لدى الامتثال إما أن يأتي بنفس الواجبات الواقعية ويترك المحرمات ، وإما أن يعتمد على ما يعذّره على تقدير الخطأ وهو ما قطع بحجيته ، إذ لا يجوز لدى العقل الاعتماد على غير ما علم بحجيته حيث يحتمل معه العقاب ، وعلى هذا يترتب أن العامي لا بدّ في استناده إلى فتوى المجتهد أن يكون قاطعاً بحجيتها في حقه ، أو يعتمد في ذلك على ما يقطع بحجيته ، ولا يسوغ له أن يستند في تقليده على ما لا يعلم بحجيته إذ معه يحتمل العقاب على أفعاله وتروكه وعليه لا يمكن أن تكون مسألة التقليد تقليدية ، بل لا بدّ أن تكون ثابتة بالاجتهاد . نعم ، لا مانع من التقليد في خصوصياته كما يأتي عليها الكلام ، إلاّ أن أصل جوازه لا بدّ أن يستند إلى الاجتهاد .
ــ[63]ــ
ما يمكن أن يعتمد عليه العامي
الّذي يمكن أن يعتمد عليه العامي في حجية فتوى المجتهد في حقّه أمران :
أحدهما : الارتكاز الثابت ببناء العقلاء ، حيث جرى بناؤهم في كل حرفة وصنعة بل في كل أمر راجع إلى المعاش والمعاد ، على رجوع الجاهل إلى العالم لأنه أهل الخبرة والاطلاع ، ولم يرد من هذه السيرة ردع في الشريعة المقدسة . وهذه السيرة والبناء وإن جاز أن لا يلتفت إليهما العامي مفصلاً ، إلاّ أنهما مرتكزان في ذهنه بحيث يلتفت إليهما ويعلم بهما تفصيلاً بأدنى إشارة وتنبيه .
وثانيهما : دليل الانسداد ، وتقريبه أن كل أحد يعلم بثبوت أحكام إلزامية في حقه كما يعلم أنه غير مفوّض في أفعاله بحيث له أن يفعل ما يشاء ويترك ما يريد ، وهذان العلمان ينتجان استقلال العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف الواقعية المنجّزة بعلمه ، وطريق الخروج عنها منحصر في الاجتهاد والاحتياط والتقليد .
أما الاجتهاد ، فهو غير متيسّر على الكثير بل على الجميع ، لأن كل مجتهد كان برهة من الزمان مقلداً أو محتاطاً لا محالة ، وكونه مجتهداً منذ بلوغه وإن كان قد يتفق إلاّ أنه أمر نادر جداً ، فلا يمكن أن يكون الاجتهاد واجباً عينياً على كل أحد بل لعلّه خلاف الضرورة بين المسلمين .
وأمّا الاحتياط ، فهو كالاجتهاد غير ميسور له لعدم تمكنه من تشخيص موارده ، على أ نّا لا نحتمل أن تكون الشريعة المقدسة مبتنية على الاحتياط . إذن يتعيّن على العامي التقليد لانحصار الطريق به . وبهذا الطريق يستكشف العقل أن الشارع قد نصب في الشريعة طريقاً آخر إلى الأحكام الواقعية بالإضافة إلى العامي فلا يسوغ له أن يأخذ بالعمل بمظنوناته ويترك مشكوكاته وموهوماته ، وذلك لأنه ليس للمقلّد ظنّ بالأحكام فإنه ليس من أهل النظر والاجتهاد . على أن ظنّه كشكّه ووهمه لا أقربية له إلى الواقع بالنسبة إلى شقيقيه ، لعدم ابتنائه على النظر في أدلة الأحكام فليس له طريق أقرب إلى الواقع من فتوى مقلّده .
وعلى الجملة أن دليل الانسداد وإن لم يتم بالإضافة إلى المجتهد ، فإن من يرى انسداد باب العلم الّذي من مقدماته عدم التمكن من الاجتهاد ، كيف يرخّص الرجوع
ــ[64]ــ
إلى فتوى من يرى إنفتاحه ويدعي التمكن من الاجتهاد وذلك لعلمه بخطئه ومع تخطئته لا يتمكن العامّي من الرجوع إليه ، إلاّ أنه تام بالإضافة إلى العامّي كما عرفت هذا كلّه فيما يمكن أن يعتمد عليه العامي في المقام .
ما دلّ على جواز التقليد
وأما ما يمكن أن يستدل به المجتهد على جواز التقليد في الشريعة المقدسة فهو اُمور :
منها : السيرة العقلائية الممضاة بعدم الردع عنها وقد تقدمت ، وهي تقتضي جواز التقليد والافتاء كليهما .
ومنها : قوله عزّ من قائل : (فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون )(1) فإنها تدلنا على وجوب النفر حسبما تقتضيه لولا التحضيضية ، كما تدلنا على وجوب التفقه والانذار لأنهما الغاية الداعية إلى الأمر بالنفر ، وتدلنا أيضاً على أن مطلوبية التفقه والانذار ليست لأجل نفسيهما ، بل من جهة احتمال التحذر بواسطتهما ، فالغاية من ذينك الواجبين هو التحذر عند الانذار ، وحيث إن الآية مطلقة فيستفاد منها أن التحذر عقيب الانذار واجب مطلقاً ، سواء حصل العلم من إنذار المنذرين أم لم يحصل .
وتوضيحه : أن الحذر على ما يستفاد من مشتقاته وموارد استعمالاته ، عنوان للعمل وليس عبارة عن الخوف النفساني فحسب ، ومعناه التحفظ عن الوقوع فيما لا يراد من المخاوف والمهالك ، مثلاً إذا حمل المسافر سلاحه في الطريق المحتمل فيه اللّص أو السبع للمدافعة عن نفسه أو ماله يقال : إنه تحذّر فهو فعل إختياري وليس بمعنى الخوف كما مر ، وقد دلت الآية المباركة على وجوبه ، وبما أن التحذر غير مقيد فيها بصورة حصول العلم من إنذار المنذرين لكي يجب التحذر بالعلم المستند إلى الانذار ، فلا مناص من الالتزام بوجوب التحذر عقيب الانذار مطلقاً ، حصل للمتحذر علم من إنذار المنذرين أم لم يحصل .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوبة 9 : 122 .
ــ[65]ــ
وعلى الجملة أن للآية المباركة دلالات .
منها : دلالتها على وجوب التقليد في الأحكام ، لدلالتها على وجوب التحذر بانذار الفقيه وهو إنما يتحقق بالعمل على إنذاره وفتواه .
ومنها : دلالتها على وجوب الافتاء ، وذلك لدلالتها على وجوب الانذار فإن الانذار قد يكون بالدلالة المطابقية وفد يكون ضمنياً أو بالالتزام ، وإفتاء المجتهد بالحرمة أو الوجوب يتضمن الانذار باستحقاق العقاب عند تركه الواجب أو اتيانه الحرام .
ومنها : دلالتها على حجية انذار الفقيه وإفتائه ، وذلك لأنه لو لم يكن إنذاره حجة شرعاً ، لم يكن أي مقتض لوجوب التحذر بالانذار لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فوجوب التحذّر عند إنذار الفقيه يستلزم حجية الانذار لا محالة ، هذا .
وقد يقال : إن الفقاهة والاجتهاد في الصدر الأوّل غير الفقاهة والاجتهاد في العصور المتأخرة ، لأن التفقه في الأعصار السابقة إنما كان بسؤال الأحكام وسماعها عن المعصومين (عليهم السّلام) ، ولم يكن وقتئذ من الاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه عين ولا أثر ، إذن لا دلالة للآية المباركة على حجية إنذار الفقيه بالمعنى المصطلح لتدل على حجية فتواه ، وإنما تدل على حجية النقل والرواية ، لأن إنذار الفقيه بالمعنى المتقدم إنما هو بنقله الحكم الّذي سمعه من مصادره ، أو باخباره عن أن الفعل يترتب على ارتكابه أو على عدم ارتكابه العقاب ، وأين هذا من التفقه بالمعنى المصطلح عليه لأنه أمر آخر يتوقف على إعمال الدقة والنظر .
وهذه المناقشة وإن أوردها بعض مشايخنا المحققين (قدّس الله أسرارهم) (1) إلاّ أنها مما لا يمكن المساعدة عليه وذلك :
أما أوّلاً : فلأن الآية المباركة لمكان أخذها عنوان الفقاهة في موضوع وجوب التحذر ، ليست لها أ يّة دلالة على حجية الخبر والرواية من جهتين :
إحداهما : أن حجية الرواية لا يعتبر فيها أن يكون الناقل ملتفتاً إلى معناها فضلاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد (الاصفهاني) : 18 .
ــ[66]ــ
عن أن يكون فقيهاً ، لكفاية الوثاقة في حجية نقل الألفاظ المسموعة عن المعصوم (عليه السّلام) من غير أن يتوقف على فهم المعنى بوجه .
وثانيتهما : أن الراوي لا يعتبر في حجية رواياته أن يصدق عليه عنوان الفقيه ، لأنه إذا روى رواية أو روايتين أو أكثر لم يصدق عليه الفقيه وإن كان ملتفتاً إلى معناها لضرورة أن العلم بحكم أو بحكمين لا يكفي في صدق الفقيه مع حجية رواياته شرعاً .
أللّهمّ إلاّ أن يقال : إن الآية المباركة إذا دلت على حجية الخبر عند صدق الفقيه على ناقله ، دلت على حجيته عند عدم كون الراوي فقيهاً لعدم القول بالفصل ، إلاّ أن ذلك اسـتدلال آخر غير مستند إلى الآية ، كيف وقد عرفت أن الآية قد اُخذ في موضوعها التفقه في الدين . فظهر بما سردناه أن دلالة الآية المباركة على حجية فتوى المجتهد وجواز التقليد أقرب وأظهر من دلالتها على حجية الخبر .
وأما ثانياً : فلعدم كون التفقه والاجتهاد في الأعصار السابقة مغايراً لهما في العصور المتأخرة ، بل الاجتهاد أمر واحد في الأعصار السابقة والآتية والحاضرة ، حيث إن معناه معرفة الأحكام بالدليل ولا اختلاف في ذلك بين العصور . نعم ، يتفاوت الاجتهاد في تلك العصور مع الاجتهاد في مثل زماننا هذا في السهولة والصعوبة حيث إن التفقه في الصدر الأوّل إنما كان بسماع الحديث ، ولم تكن معرفتهم للأحكام متوقفة على تعلم اللغة ، لكونهم من أهل اللسان أو لو كانوا من غيرهم ولم يكونوا عارفين باللغة كانوا يسألونها عن الإمام (عليه السّلام) فلم يكن اجتهادهم متوقفاً على مقدمات ، أما اللغة فلما عرفت ، وأمّا حجية الظهور واعتبار الخبر الواحد ـ وهما الركنان الركينان في الاجتهاد ـ فلأجل أنهما كانتا عندهم من المسلّمات . وهذا بخلاف الأعصار المتأخرة لتوقف الاجتهاد فيها على مقدمات كثيرة ، إلاّ أن مجرد ذلك لا يوجب التغيير في معنى الاجتهاد ، فإن المهم مما يتوقف عليه التفقه في العصور المتأخرة إنما هو مسألة تعارض الروايات ، إلاّ أن التعارض بين الأخبار كان يتحقق في تلك العصور أيضاً ، ومن هنا كانوا يسألونهم (عليهم السّلام) عمّا إذا ورد عنهم خبران متعارضان . إذن التفقه والاجتهاد بمعنى إعمال النظر متساويان في الأعصار السابقة واللاّحقة وقد كانا متحققين في الصدر الأول أيضاً . ومن هنا ورد في مقبولة عمر بن
ــ[67]ــ
حنظلة : «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ...» (1) وفي بعض الأخبار ورد الأمر بالافتاء صريحاً (2) .
فدعوى أن الفقاهة والاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه لا عين ولا أثر له في الأعصار السالفة مما لا وجه له . ومعه لا موجب لاختصاص الآية المباركة بالحكاية والإخبار ، لشمولها الافتاء أيضاً كما عرفت . فدلالة الآية على حجية الفتوى وجواز التقليد مما لا مناقشة فيه .
ومنها : قوله عزّ من قائل : (فاسئلوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون )(3) حيث دلت على وجوب السؤال عند الجهل ، ومن الظاهر أن السؤال مقدمة للعمل فمعنى الآية المباركة : فاسألوا أهل الذّكر لأجل أن تعملوا على طبق الجواب ، لا أن المقصود الأصلي هو السؤال في نفسه لوضوح أنه لغو لا أثر له ، فلا مصحح للأمر به لو لم يكن مقدمة للعمل . فتدلنا الآية المباركة على جواز رجوع الجاهل إلى العالم وهو المعبّر عنه بالتقليد ، وعلى حجية فتوى العالم على الجاهل ، لأنه لو لم يكن قول العالم حجة على السائل لأصبح الأمر بالسؤال عنه لغواً ظاهراً .
ودعوى أن المراد بها وجوب السؤال عنهم حتى يحصل العلم للسائل من أجوبتهم ويعمل على طبق علمه ، وأن معنى الآية : فاسألوا لكي تعلموا فتعملوا بعلمكم ، من البعد بمكان وذلك لأن مثل هذا الخطاب إنما هو لبيان الوظيفة عند عدم العلم والمعرفة فهو في قبال العلم بالحال ، لا أنه مقدمة لتحصيل العلم ، مثلاً يقال : إذا لست بطبيب فراجع الطبيب في العلاج ، فإن المتفاهم العرفي من مثله أن الغاية من الأمر بالمراجعة ، إنما هو العمل على طبق قول الطبيب ، لا أن الغاية صيرورة المريض طبيباً وعالماً بالعلاج حتى يعمل على طبق علمه ونظره ، فقوله راجع الطبيب ، معناه : راجعه لتعمل على نظره لا لتكون طبيباً وتعمل بعلمك .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة 27 : 136 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1 .
(2) كأمره (عليه السّلام) لأبان بن تغلب حيث قال : اجلس في مسجد المدينة وافت الناس ... راجع رجال النجاشي ص 7 .
(3) الأنبياء 21 : 7 .
ــ[68]ــ
إذن معنى الآية المباركة : أنه إذا لستم بعالمين فاسألوا أهل الذكر للعمل على طبق قولهم وجوابهم ، فلا مناقشة في دلالة الآية المباركة من هذه الجهة .
وقد يتوهم أن تفسير أهل الذكر في الأخبار ، بأهل الكتاب أو الأئمة (عليهم السّلام) ينافي الاستدلال بها على جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم والفقيه في الأحكام .
ويندفع بأن ورود آية في مورد لا يقتضي اختصاصها بذلك المورد ، والآية المباركة قد تضمنت كبرى كليةً قد تنطبق على أهل الكتاب وقد تنطبق على الأئمة (عليهم السّلام) وقد تنطبق على العالم والفقيه ، وذلك حسبما تقتضيه المناسبات على اختلافها باختلاف المقامات ، فإن المورد إذا كان من الاعتقاديات كالنبوّة وما يرجع إلى صفات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالمناسب السؤال عن علماء أهل الكتاب ، لعلمهم بآثارها وعلاماتها ، كما أن المورد لو كان من الأحكام الفرعية فالمناسب الرجوع فيه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الأئمة (عليهم السّلام) وعلى تقدير عدم التمكّن من الوصول إليهم ، فالمناسب الرجوع إلى الفقهاء .
وعلى الجملة ، تضمنت الآية المباركة كبرى رجوع الجاهل إلى العالم المنطبقة على كل من أهل الكتاب وغيرهم ، فالاستدلال بها من تلك الناحية أيضاً مما لا خدشة فيه ، هذا .
ولكن الصحيح أن الآية المباركة لا يمكن الاستدلال بها على جواز التقليد ، وذلك لأن موردها ينافي القبول التعبدي ، حيث إن موردها من الاُصول الاعتقادية بقرينة الآية السابقة عليها وهي (وما أرسلنا قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) . وهو ردّ لاستغرابهم تخصيصه سبحانه رجلاً بالنبوة من بينهم فموردها النبوة ويعتبر فيها العلم والمعرفة ولا يكفي فيها مجرد السؤال من دون أن يحصل به الاذعان . فلا مجال للاستدلال بها على قبول فتوى الفقيه تعبداً من دون أن يحصل منها العلم بالمسألة .
ــ[69]ــ
الآيات الناهية عن التقليد
ثمّ إن هناك آيات وردت في النهي عن التقليد وذمه كقوله عزّ من قائل : (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون )(1) وقوله : (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون )(2) وغير ذلك من الآيات إلاّ أنها أجنبية عمّا نحن بصدده ، فإن محل الكلام إنما هو التقليد في الأحكام الفرعية بالإضافة إلى العوام غير المتمكن من تحصيل العلم بالمسألة والآيات المباركة إنما وردت في ذم التقليد في الاُصول ، حيث كانوا يتبعون آباءهم في أديانهم ، مع أن الفطرة قاضية بعدم جواز التقليد من مثلهم ولو في غير الأصول وذلك لأنه من رجوع الجاهل إلى جاهل مثله ومن قيادة الأعمى لمثله ، فالذم فيها راجع إلى ذلك . مضافاً إلى أن الاُمور الاعتقادية يعتبر فيها العلم والمعرفة ولا يسوغ فيها الاكتفاء بالتقليد ، وليس في شيء من الآيات المتقدمة ما يدل على النهي عن التقليد في الفروع عن العالمين بها ، لمن لا يتمكن من العلم بالأحكام .
وأمّا الآيات الناهية عن الظن ، فهي أيضاً كسابقتها في عدم الدلالة على حرمة التقليد لما بيّناه في محلّه من أن النهي في تلك الآيات ليس نهياً مولوياً ، وإنما هو إرشاد إلى ما استقل به العقل ، إذ الظن يقترن دائماً باحتمال الخلاف فالعمل به مقرون باحتمال العقاب لا محالة ، ودفع العقاب المحتمل مما استقل به من العقل ، والنهي في الآيات المباركة إرشاد إليه . ومن ثمة قلنا في محله إن حجية أي حجة لا بدّ من أن تنتهي إلى العلم ، إذ لو لم تكن كذلك لاحتمل معها العقاب والعقل مستقل بلزوم دفعه .
وعلى الجملة ، أن دلالة آية النفر على حجية الفتوى وجواز التقليد مما لا إشكال فيه ، ولا يعارضها شيء من الآيات المباركة .
ومنها : الروايات الدالة على جواز العمل بالتقليد وحجية الفتوى في الفروع ، وهي كثيرة بالغة حدّ التواتر الاجمالي وإن لم تكن متواترة مضموناً . وبها يظهر أن الأدلة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5 : 104 .
(2) البقرة 2 : 170 .
ــ[70]ــ
اللفظية والسيرة والعقل مطبقة على جواز التقليد وحجية فتوى الفقيه . وتلك الأخبار على طوائف :
الاُولى : الأخبار المشتملة على إرجاع الناس إلى أشخاص معينين أو إلى عنوان من العناوين المنطبقة عليهم ، كالارجاع إلى العمري وابنه ، ويونس بن عبدالرحمان وزكريا بن آدم ، ويونس مولى آل يقطين ، والارجاع إلى رواة حديثهم إلى غير ذلك من الروايات (1) . وحيث إن دلالتها على الارجاع إلى هؤلاء مطلقة فتشمل ما إذا كان ما يؤدّونه في مقام الجواب ، ما وصل إليه نظرهم من الجمع بين الروايتين المتعارضتين أو حمل المطلق على المقيد أو التمسك بالعام عند الشك في التخصيص أو غير ذلك من أنحاء الاجتهاد والاستنباط ، وما إذا كان جوابهم بنقل الألفاظ الّتي سمعوها عنهم (عليهم السّلام) .
وأظهر منها قوله (عليه السّلام) في رواية إسحاق بن يعقوب : «وأما الحوادث
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال : «سألته وقلت : من اُعامل ؟ وعمّن آخذ ؟ وقول من أقبل ؟ فقال : العمري ثقتي فما أدى إليك عني ، فعني يؤدي وما قال لك عني فعني يقول فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون» . قال : «وسألت أبا محمد (عليه السّلام) عن مثل ذلك فقال : العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني ، فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما فانهما الثقتان المأمونان» .
عبدالعـزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطـين جميعاً عن الرضا (عليه السّلام) قال : «قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني ؟ فقال : نعم» .
عبدالعزيز بن المهتدي قال : «قلت للرضاع (عليه السّلام) إن شقتي بعيدة فلست أصل إليك في كل وقت ، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين ؟ قال : نعم» .
علي بن المسيب الهمداني قال : «قلت للرضا (عليه السّلام) : شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني ؟ قال : من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا» .
إسحاق بن يعقوب قال : «سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السّلام) أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك ... إلى أن قال : وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» . وسائل الشيعة 27 : 138 / أبواب صفات القاضي ب 11 ، ح 4 ، 9، 27 ، 33 ، 35 .
ــ[71]ــ
الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» (1) وذلك لأن الحوادث الواقعة قد لا تكون منصوصة فلا يمكن أن يجاب فيها إلاّ بالاجتهاد وإعمال النظر . وأما التعبير فيها برواة الحديث دون العلماء أو الفقهاء ، فلعل السرّ فيه أن علماء الشيعة ليس لهم رأي من عند أنفسهم في قبال الأئمة (عليهم السّلام) فإنهم لا يستندون إلى القياس والاستحسان والاستقراء الناقص وغير ذلك مما يعتمد عليه المخالفون ، وإنما يفتون بالروايات المأثورة عنهم (عليهم السّلام) فهم في الحقيقة ليسوا إلاّ رواة حديثهم .
الثانية : الأخبار المشتملة على الأمر الصريح بافتاء بعض أصحابهم (عليهم السّلام) كقوله لأبان بن تغلب : «إجلس في (مسجد) مجلس المدينة وافت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك» (2) وقوله لمعاذ بن مسلم النحوي : «بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟ قلت : نعم وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج ، إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ، ويجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبكم فاُخبره بما جاء عنكم ، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا ، وجاء عن فلان كذا فادخل قولكم فيما بين ذلك فقال لي : إصنع كذا فإني كذا أصنع» (3) .
وهذه الطائفة لا إشكال في دلالتها على جواز الافتاء في الأحكام ، كما أنها تدلنا على جواز التقليد والرجوع إلى مثل أبان أو معاذ ، إذ لو لم يجز تقليده بأن لم يكن فتواه حجة على السائل لم يكن فائدة في أمرهم (عليهم السّلام) بافتائه لأنه حينئذ لغو ومما لا أثر له .
الثالثة : الأخبار الناهية عن الافتاء بغير علم وعن القضاء بالرأي والاستحسان والمقاييس ، وهي كثيرة عنون لها باباً في الوسائل وأسماه باب عدم جواز القضاء والحكم بالرأي والاجتهاد والمقاييس ونحوها من الاستنباطات الظنية في نفس
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة 27 : 140 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 9 .
(2) المروية في رجال النجاشي ص 7 ـ 8 .
(3) وسائل الشيعة 27 : 148 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 36 .
ــ[72]ــ
بالعمل بقول مجتهد معين وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ فتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بالعمل بما فيها كفى في تحقق التقليد (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحكام الشرعية (1) . وهي تدل على حرمة الافتاء بمثل القياس والاستحسان وغيرهما مما هو متداول عند المخالفين لأنه من الافتاء بغير علم ، كما أنها تدل على جواز الافتاء عن مدرك صحيح كالأخبار المأثورة عنهم (عليهم السّلام) على ما هو المتعارف عند علماء الشيعة (قدّس الله أسرارهم) .
(1) إن من يجوز تقليده إما أن يتحد وإما أن يتعدد ، وعلى الثاني إما أن يتفقوا في الفتوى وإما أن يختلفوا ، وعلى جميع هذه التقادير لا يرجع التقييد بالتعيين في كلامه (قدّس سرّه) إلى محصل وذلك :
أمّا في صورة الاتحاد، فلوضوح أنه لا تعدد لمن يجوز تقليده ليجب تعيينه أو لا يجب.
وأمّا عند التعدد مع الاتفاق في الفتوى ، فلما تأتي الإشارة إليه في المسألة الثامنة عشرة من أن الحجية إنما ترتبت على طبيعي فتوى الفقيه على نحو صرف الوجود وهذا ينطبق على القليل والكثير . إذن الحجة هو الجامع بين الفتويين أو الفتاوى سواء تساووا في الفضيلة أم اختلفوا ، فإن حال المقام حال الخبرين إذا دلّ كلاهما على حكم واحد ، حيث إن المجتهد إذا أفتى مستنداً إلى الجامع بينهما ، فقد استند إلى الحجة وإن لم يعيّن أحدهما ، إذ لا دليل على لزوم تعيين المستند بوجه ، بل التعيين أمر غير ممكن لأنه بلا مرجح ، فالحجة هو الجامع بين الروايتين .
وأمّا عند التعدد مع الاختلاف في الفتوى ، فلما يوافيك في المسألة الثالثة عشرة من أن الوظيفة حينئذ هو الاحتياط ، لسقوط الفتويين أو الفتاوى عن الحجية بالتعارض فلا حجة ليجب تعيينها أو لا يجب .
هذا كلّه إذا اُريد بالمعيّن ما يقابل المتعدد . وأمّا لو اُريد به ما يقابل المردد فالتقييد صحيح ، إلاّ أنه أمر لا حاجة إليه لأن المردد لا ماهية ولا وجود له ليكون قابلاً للحكم عليه بالحجية أو بغيرها .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة 27 : 35 / أبواب صفات القاضي ب 6 .
ــ[73]ــ
[ 9 ] مسألة 9 : الأقوى جواز البقاء ((1)) على تقليد الميت ، ولا يجوز تقليد الميت ابتداء (1) .
إشتراط الحياة في المقلّد
(1) قد اختلفوا في اعتبار الحياة في من يرجع إليه في التقليد وعدمه ، على أقوال ثلاثة :
أحدها : جواز تقليد الميت مطلقاً إبتداءً واستدامة . ونسب ذلك إلى الأخباريين ووافقهم من الاُصوليين المحقق القمي (قدّس سرّه) في جامع الشتات في موردين حيث سئل في أحدهما عن جواز الرجوع إلى فتوى ابن أبي عقيل (قدّس سرّه) فأجاب بما حاصله : أن الأقوى عندنا جواز تقليد الميت بحسب الابتداء فلا مانع من الرجوع إليه(2) . وقال في ثانيهما : إن الأحوط الرجوع إلى الحي(3) ، والاحتياط في كلامه من الاحتياط المستحب لافتائه بجواز تقليد الميت ابتداء .
وثانيهما : عدم جواز تقليد الميت مطلقاً .
وثالثهما : التفصيل بالمنع عن جواز تقليد الميت ابتداءً ، والقول بجوازه بحسب البقاء .
وتحقيق الكلام في هذه المسألة يستدعي التكلم في مقامين :
1 ـ تقليد الميت إبتداءً
ذهبت العامة إلى جوازه ومن ثمّة قلّدوا أشخاصاً معيّنين من أموات علمائهم ، ووقع ذلك عند أصحابنا (قدّس سرّهم) مورد الكلام ، والمشهور بل المتسالم عليه عندهم عدم الجواز ، ونسب القول بالجواز إلى المحدّثين وإلى الميرزا القمي (قدّس سرّه) كما مرّ .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل الأقوى وجوبه فيما تعين تقليد الميت على تقدير حياته .
(2) جامع الشتات 2 : 420 .
(3) جامع الشتات 1 : 27 .
ــ[74]ــ
والصحيح ، أن خلافه كمخالفة المحدّثين غير مانعين عن دعوى التسالم على عدم مشروعية تقليد الميت إبتداءً ، وسرّه أن المحقق القمى إنما جوّز تقليد الميت بحسب الابتداء تطبيقاً للمسألة على مسلكه وجرياً على ما هو الصحيح عنده من إنسداد باب العلم بالأحكام ، وأن الامتثال الجزمي وهو الاحتياط متعذر على المكلفين ، وأن العقل يتنزل معه إلى امتثالها ظناً ، لأ نّه المقدور في حقهم فالمتعين على المكلفين إنما هو العمل بالظن ، بلا فرق في ذلك بين الظن الحاصل من فتاوى العلماء الأحياء وبين الظن الحاصل من فتاوى أمواتهم .
وهذا فاسد مبنى وبناءً ، أمّا بحسب المبنى ، فلما ذكرناه فى بحث الانسداد من أن دعوى انسداد باب العلم بالأحكام فاسدة من أساسها ، حيث إنها تبتني على أحد أمرين على سبيل منع الخلو :
أحدهما : دعوى عدم حجية الظواهر بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام .
وثانيهما : البناء على عدم حجية الخبر الموثوق به . وقد أثبتنا في محله حجية كل من الظواهر والخبر الموثوق به ، وقلنا إن حجية الظواهر غير مختصة بمن قصد إفهامه والخبر الموثوق به كالمقطوع صحته ، فدعوى الانسداد فاسدة مبنىً .
وأمّا بحسب البناء ، فلأنّا لو سلّمنا إنسداد باب العلم كما يراه ، فهذا إنما يقتضي اعتبار الظن على خصوص المجتهد ، لأنه حينئذ يجب أن يعمل بظنه الحاصل من الأدلة ، وأما العامّي فلا ، لأنه كيف يحصل له الظن بالحكم الواقعي من فتوى الميت عند مخالفة الأحياء ، بل الأموات أيضاً معه في المسألة ، وبالأخص إذا كان الأحياء بأجمعهم أو بعضهم أعلم من الميت ، والاختلاف في الفتوى بين العلماء مما لا يكاد يخفى على أحد ، ومعه لا يحصل للعامّي أيّ ظن بأن ما أفتى به الميت مطابق للواقع ، وأن فتوى غيره من الأموات والأحياء مخالف له كيف فإنه يحتمل خطأه حينئذ .
فالصحيح بناء على هذا المبنى الفاسد ، أن يقال : إن العامي يجب عليه العمل على فتوى المشهور في المسألة ، لأن فتواهم مفيدة للظن في حقه ، هذا كلّه بالنسبة إلى خلاف المحقق القمي .
وأما مخالفة المحدّثين فهي أيضاً كذلك ، وذلك لأنهم إنما رخّصوا في تقليد الميت
ــ[75]ــ
بحسب الابتداء ، بناءً على مسلكهم من إنكار مشروعية التقليد بالكلية ، وأن رجوع العامّي إلى المجتهد إنما هو من باب الرجوع إلى رواة الحديث ، كما في رواية إسحاق بن يعقوب «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» (1) . فالمفتي ينقل الرواية لا أنه يفتي حقيقة حسب رأيه ونظره ، ومن الظاهر أن حجية الرواية وجواز العمل بها لا يتوقفان على حياة الراوي بوجه ، لأنها حجة ويجوز العمل بها كان المحدّث حياً أو ميتاً .
وهذه الدعوى أيضاً فاسدة مبنىً وبناءً ، أما بحسب المبنى ، فلما أسلفناه من أن المستفاد من الآيات والروايات أن الرجوع إلى المجتهد إنما هو من أجل أنه أهل الخبرة والاطلاع ، وأن لنظره دخلاً في جواز الرجوع إليه ، لا أنه من جهة كونه راوي الحديث . وقد دلت آية النفر على أن إنذار الفقيه حجة ، ومعناه أن الفقيه بما أنه فقيه وناظر في الأخبار وقد جمع بين متعارضاتها وخصص عموماتها وقيّد مطلقاتها يجوز الرجوع إليه ، فإنه لا يعتبر الفقاهة في الراوي كما مرّ ، فهو من رجوع الجاهل إلى العالم والفقيه ، لا من رجوع العامّي إلى رواة الحديث . فهذه الدعوى غير تامة مبنىً .
وأما بحسب البناء ، فلأ نّا لو سلّمنا أن الرجوع إلى المجتهد من باب الرجوع إلى راوي الحديث ، فلا يمكننا إرجاع العامّي إلى فتوى الميت بعنوان راوي الحديث وذلك لأن كل شخص عامّي أو غيره على علم من أن المسائل الشرعية مورد الخلاف بين العلماء (قدّس الله أسرارهم) للاختلاف في مداركها وأخبارها ، وبالأخص إذا كان ممن له حظ من العلم وإن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد ، لأنه إذا رجع إلى الكتب الفقهية رأى أن للشهيد قولاً وللشيخ قولاً آخر وهكذا ، ومع فرض التعارض في الأخبار لا يجوز للعامّي كالمجتهد أن يرجع إلى شيء من المتعارضات . بل لا بدّ من ملاحظة المرجحات والأخذ بما له مرجح من المتعارضين ، وعلى تقدير تكافئهما يلاحظ أن مقتضى القاعدة هو التساقط أو التخيير . فعلى القول بأن الرجوع إلى المجتهد من الرجوع إلى راوي الحديث ، وفرض عدم المرجح في البين ، والقول بأن القاعدة تقتضي التخيير في المتكافئين ، لا بأس برجوعه إلى فتوى الميت فلا مجوّز للحكم بجواز رجوعه إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة 27 : 140 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 9 .
ــ[76]ــ
الميت على نحو الاطلاق .
وملخص الكلام : أن مخالفة المحدّثين والمحقق القمي (قدّس سرّه) ليست مخالفة في المسألة ومحل الكلام ، إذ لعلّها مبتنية على مسلكهما كما مرّ ، وأمّا أن المحقق لو كان بانياً على الانفتاح ، والمحدّثين لو كانوا بانين على أن الرجوع إلى المجتهد من باب الرجوع إلى العالم وأهل الاطلاع ، كانا يجوّزان تقليد الميت إبتداءً فلا علم لنا به ، وكيف كان فلا بدّ من التكلم فيما استدل به على جواز تقليد الميت إبتداءً .
أدلة المثبتين
وقد استدلوا عليه بوجوه :
منها : دعوى أن الآيات والروايات الواردة في حجية فتوى الفقيه غير مقيّدة بحال الحياة ، فمقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق في حجيتها بين الحياة والممات ، لأنها كما تشمل فتوى المجتهد الحي كذلك تشمل فتوى المجتهد الميت ، فالنتيجة هو التخيير لا محالة .
ويدفعه : أن الآيات والروايات على تقدير إطلاقهما وشمولهما فتوى الميت في نفسها لا يمكن التمسك بهما في المقام ، وذلك لما مرّ من أن العلماء أحياءهم وأمواتهم مختلفون في المسائل الشرعية ومع مخالفة فتوى الميت لفتوى الأحياء ، بل مخالفتها لفتوى الأموات بأنفسهم ، لا تشملها الاطلاقات بوجه لعدم شمول الاطلاق للمتعارضين ، هذا .
على أن الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه وجواز الرجوع إليه لا إطلاق لها من تلك الناحية ليشمل فتوى الميت في نفسها ، وذلك لأنها إنما دلت على وجوب الحذر عند إنذار المنذر والفقيه ، أو على السؤال من أهل الذكر ، أو على الرجوع إلى راوي الحديث أو الناظر في الحلال والحرام ، أو غير ذلك من العناوين الواردة في الأخبار ولا شبهة في أن القضايا ظاهرة في الفعلية ، بمعنى أن قولنا مثلاً : العالم يجب إكرامه ظاهره أن من كان متصفاً بالعلم بالفعل هو الّذي يجب إكرامه ، لا الأعم من المتلبس بالفعل ، ومن انقضى عنه التلبس . إذن مقتضى الأدلة المتقدمة أن من كان متصفاً بالانذار فعلاً أو بالفقاهة أو العلم أو غيرها من العناوين بالفعل ، هو الّذي يجوز تقليده . ولا إشكال
ــ[77]ــ
في أن الميت لا يتّصف بالانذار أو أهل الذكر أو بغيرهما من العناوين المتقدمة بالفعل ، وإنما كان منذراً أو فقيهاً سابقاً إذ لا إنذار للميت ، ولا أنه من أهل الذكر إلى غير ذلك من العناوين المتقدمة ، وقد عرفت أن الأدلة غير شاملة لمن لم يكن متصفاً بالعناوين المأخوذة في الموضوع بالفعل .
وعلى الجملة ، أن الميت لما لم يكن منذراً أو متصفاً بغيره من العناوين المتقدمة بالفعل ، لم تشمله الأدلة القائمة على حجية فتوى المنذر ، ففتوى الميت خارجة عن مداليل الأدلة رأساً . ولا نريد بذلك دعوى أن الحذر يعتبر أن يكون مقارناً للانذار وحيث إن هذا لا يعقل في فتوى الميت فإن الحذر متأخر عن إنذاره لا محالة فلا تشمله المطلقات ، بل نلتزم بعدم اعتبار التقارن بينهما قضاءً لحق المطلقات لعدم تقييدها بكون أحدهما مقارناً للآخر .
وإنما ندعي أن فعلية العناوين المذكورة وصدقها بالفعل ، هي المأخوذة في موضوع الحجية بحيث لو صدق أن الميت منذر بالفعل أو فقيه أو من أهل الذكر كذلك ، وجب الحذر من إنذاره وحكمنا بحجية فتواه وإن لم يكن الحذر مقارناً لانذاره ، كما إذا لم يعمل المكلف على طبقه بأن فرضنا أن المجتهد أفتى وأنذر وشمل ذلك زيداً مثلاً ثمّ مات المجتهد قبل أن يعمل المكلف على طبق فتواه ، فإنه حجة حينئذ ، لأن إنذاره المكلف إنما صدر في زمان كان المجتهد فيه منذراً بالفعل أي كان منذراً حدوثاً وإن لم يكن كذلك بحسب البقاء ، ويأتي في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت أن هذا كاف في حجية الفتوى ، ومن هنا قلنا إن المقارنة بين الانذار والحذر غير معتبرة لاطلاق الأدلة من تلك الجهة . وأما إذا لم يصدق المنذر أو الفقيه أو بقية العناوين المتقدمة على الميت ولو بحسب الحدوث كما في التقليد الابتدائي ، نظير فتوى ابن أبي عقيل بالإضافة إلى أمثالنا فلا تشمله المطلقات لأن إنذاره ليس من إنذار المنذر أو الفقيه بالفعل .
ثمّ إن بما سردناه ظهر الجواب عن الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين كزكريا بن آدم ، ومحمّد بن مسلم ، وزرارة وأضرابهم حيث إن ظهورها في إرادة الارجاع إلى الحي غير قابل المناقشة ، لأنه لا معنى للارجاع إلى الميت والأمر بالسؤال أو الأخذ منه ، وذلك لوضوح أن الارجاع فيها إنما هو إلى هؤلاء الأشخاص
ــ[78]ــ
بأنفسهم ، لا أن الارجاع إلى فتاواهم ليقاس ذلك بالأخبار ويدعى أن الفتوى كالرواية لا يفرق الحال في حجيتها بين أن يكون المفتي حياً أو ميتاً ، كما هو الحال في راوي الحديث . إذن لا موضوع للارجاع بعد موتهم فهذا الوجه غير تام .
ومنها : السيرة ، بتقريب أن العقلاء قد جرت سيرتهم على رجوع الجاهل إلى العالم ، ولا يفرّقون في ذلك بين العالم الحي والميت ، ومن هنا لو مرض أحدهم وشخّص مرضه لرجعوا في علاجه إلى القانون وغيره من مؤلفات الأطباء الأموات من غير نكير ، وحيث لم يردع عن هذه السيرة في الشريعة المقدسة فنستكشف أنها حجة وممضاة شرعاً .
ويرد على هذا الوجه : أن جريان السيرة على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً وإن كان غير قابل للمناقشة ، إلاّ أنها لو لم تكن مردوعة بما يأتي من أن الأدلة الواردة في حجية فتوى الفقيه ظاهرة في فتوى أحيائهم ، لا تقتضي جواز تقليد الميت في نفسها وذلك لما مرّ من أن العامّي فضلاً عن غيره لا تخفى عليه المخالفة بين العلماء الأموات والأحياء في المسائل الشرعية بل بين الأموات أنفسهم ، ومع العلم بالمخالفة لا تشمل السيرة فتوى الميت بوجه ، لأن الأدلة ومنها السيرة غير شاملة للمتعارضين .
ومنها : الاستصحاب ، وذلك للقطع بحجية فتوى الميت قبل موته فإذا شككنا في بقائها على حجيتها وعدمه ، إستصحبنا حجيتها وبه يثبت أن العمل على فتوى الميت مؤمّن من العقاب . نعم ، لولا هذا الاستصحاب تعيّن الرجوع إلى فتوى الحي بمقتضى قاعدة الاشتغال لأنها المتيقنة من حيث الحجية ، وهذا بخلاف فتوى الميت للشك في حجيتها بموته .
والجواب عن ذلك : أنا لو أغمضنا عن أنه من الاستصحابات الجارية في الأحكام لوضوح أن الشك إنما هو في سعة الحجية المجعولة وضيقها ، وقد بيّنا في محله عدم جريان الاستصحاب في الأحكام ، وفرضنا أن لنا يقيناً سابقاً بحجية فتوى الميت بالإضافة إلى الجاهل المعدوم في عصره ، بأن بنينا على أن حجية فتوى الميت إنما جعلت في الشريعة المقدسة على نحو القضايا الحقيقية ، وموضوعها الجاهل المقدّر الوجود لتشمل الجاهل الموجود في عصر المجتهد الميت والجاهل المعدوم الّذي سيوجد
ــ[79]ــ
بعد موته ، ولم ندّع أن اليقين بالحجية إنما هو بالإضافة إلى الجاهل الموجود في زمانه وإلاّ فلا يقين بحجية فتواه على من يريد تقليده ابتداءً بعد موته ، ولم نناقش بأن الحجية إنما ترتبت على الرأي والنظر ، ولا رأي بعد الممات كما ذكره صاحب الكفاية (قدّس سرّه) (1) بأن قلنا إن الرأي حدوثه يكفي في حجيته بحسب البقاء ولا يعتبر إستمراره في حجيته بعد الممات ، وأغمضنا عمّا هو الظاهر من الأخبار والآيات المتقدّمتين ، من أن الحجة إنما هو إنذار المنذر بالفعل لا من كان منذراً سابقاً وليس بمنذر بالفعل ، كما إذا قلنا إن الرجوع إنما يجب إلى فتوى المجتهد وأقواله ولا يجب الرجوع إلى ذات المجتهد ونفسه ، حتى تنتفي حجيته بموته كما هو الحال في الرواية إذ الحجية إنما تثبت للرواية ولم تثبت للراوي في ذاته ومن هنا لا تسقط عن الحجية بموته .
لم يمكننا المساعدة على جريان الاستصحاب في المقام ، وذلك لأن المراد بالحجية المستصحبة إن كان هو الحجية الفعلية فلا يقين بحدوثها، لأن المتيقن عدم الحجية الفعلية بالإضافة إلى العامّي المتأخر عن عصر المجتهد الميت ، لوضوح أن الفعلية إنما تتحقق بوجود المكلف العامّي في عصر المجتهد ، والمفروض عدم تحققه فليست فتاوى الميت حجة فعلية على العامّي غير الموجود في عصره لتستصحب حجيتها الفعلية .
وإن اُريد بها الحجية التعليقية ، أعني الحجية الانشائية فهي وإن كانت متيقنة على الفرض ، إلاّ أنها ليست بمورد للاستصحاب وذلك للشك في سعة دائرة الحجية المنشأة وضيقها وعدم العلم بأنها هي الحجية على خصوص من أدرك المجتهد وهو حي أو أنها تعم من لم يدركه كذلك .
وبعبارة اُخرى إنا نشك في أن حجية رأي المجتهد وفتواه مقيدة بحالة حياته أو أنها غير مقيدة بها ، فلا علم لنا بثبوت الحجية الانشائية بعد الممات ليمكن استصحابها حتى على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام ، وذلك لأن الاستصحاب في المقام أسوء حالاً من الاستصحابات الجارية في الأحكام ، لأن تلك الاستصحابات إنما تدعى جريانها في الأحكام بعد تحقق موضوعاتها وفعليتها كحرمة وطء الحائض بعد
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 477 .
ــ[80]ــ
نقائها وقبل الاغتسال ، لأن الحرمة في المثال فعلية بوجود الحائض فعلى القول بجريان الاستصحاب في الأحكام لا مانع من استصحابها للقطع بثبوتها ، وهذا بخلاف المقام لأن الشك فيه إنما هو في سعة الحكم المنشأ وضيقه من دون أن يكون فعلياً في زمان ، ومعه لا يمكن إستصحابه لعدم العلم بثبوت الجعل في زمان الشك فيه .
ومن هنا منعنا جريان الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة وعدم النسخ في الشريعة المقدسة ، ولو على القول بجريانه في الأحكام لرجوع الشك حينئذ إلى سعة جعل الحكم وضيقه ، وما عن المحدث الاسترابادي من أن استصحاب عدم النسخ من الضروريات (1) أمر لا أساس له ، فلو وصلت النوبة إلى الشك في النسخ لمنعنا عن جريانه كما عرفت ، إلاّ أنه إنما لا يعتنى باحتماله لاطلاق الأدلة المثبتة للأحكام أو لما دلّ على استمرار أحكام محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يوم القيامة .
والمتحصل : أن ما استدل به على جواز تقليد الميت من الابتداء لا يمكن تتميمه بوجه .
أدلة المانعين
وقد استدلوا على عدم جواز تقليد الميت إبتداءً بوجوه :
الأوّل : ما عن جملة من الأعاظم من دعوى الاجماع على عدم الجواز وأن ذلك مما امتازت به الشيعة عن أهل الخلاف ، لأنهم ذهبوا إلى جواز تقليد الأموات ، ومن هنا قلّدوا جماعة منهم في أحكامهم ، ولم تقبل الشيعة ذلك لاشتراطهم الحياة في من يجوز تقليده . وقد بيّنا أن مخالفة المحقق القمي والمحدّثين ليست من المخالفة في محل الكلام وإنما هي مبتنية على مسلكهما الفاسدين ، ولم يظهر ذهابهما إلى جواز تقليد الميت على القول بالانفتاح ، وكون الرجوع إلى المجتهد من الرجوع إلى أهل الخبرة والاطلاع .
وفيه : أن الاجماع المدعى على تقدير تحققه ليس إجماعاً تعبدياً قابلاً لاستكشاف قول المعصوم (عليه السّلام) به ، كما إذا وصل إليهم الحكم يداً بيد عنهم (عليهم السّلام) لاحتمال أن يستندوا في ذلك إلى أصالة الاشتغال أو إلى ظهور الأدلة في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفوائد المدنية : 143 .
ــ[81]ــ
اشتراط الحياة في من يجوز تقليده أو غير ذلك من الوجوه ، ومعه لا يمكن الاعتماد على إجماعهم ، لوضوح أن الاتفاق بما هو كذلك مما لا اعتبار به ، وإنما نعتبره إذا استكشف به قول المعصوم (عليه السّلام) .
الثاني : أن الأدلة الدالة على حجية فتوى الفقيه ظاهرة الدلالة على اعتبار الحياة في جواز الرجوع إليه ، لظهور قوله عزّ من قائل : (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم )(1) . في إرادة إنذار المنذر الحي ، إذ لا معنى لانذار الميت بوجه . وأمّا صحة حمل المنذر على الكتاب أو النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنما هي بلحاظ أنهما إنما ينذران بأحكام الله سبحانه وهو حي ، ولما ورد «من أن الكتاب حي وأنه يجري مجرى الشمس والقمر» (2) ، وكذا قوله : (فاسئلوا أهل الذكر )(3) لو تمت دلالته على حجية فتوى الفقيه ، وذلك لأن الميت لا يطلق عليه أهل الذكر بالفعل . وقوله : «أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه» إذ الميت غير متّصف بشيء مما ذكر في الحديث ، فإن لفظة «كان» ظاهرة في الاتصاف بالأوصاف المذكورة بالفعل ، لا الاتصاف بها في الأزمنة السابقة .
وأمّا الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين ، فقد تقدم أن ظهورها في إرادة الحي مما لا خدشة فيه ، لأن الميت لا معنى للارجاع إليه .
وبما ذكرناه يظهر أن السيرة العقلائية المستدل بها على جواز الرجوع إلى الميت بحسب الابتداء مردوعة في الشريعة المقدّسة، لظهور الأدلّة في اعتبار الحياة في من يرجع إليه في الأحكام وعدم جواز تقليد الميت إبتداء .
ويرد عليه : أن ظهور الأدلة في اشتراط الحياة في من يجوز تقليده وإن كان غير قابل للانكار ، لما بيّنا من أن كل قضية ظاهرة في الفعلية بالمعنى المتقدم ، إلاّ أنها ليست بذات مفهوم لتدلّنا على حصر الحجية في فتوى الحي من المجتهدين وعدم حجية فتوى أمواتهم ، ومعه يمكن أن تكون فتوى الميت حجة كفتوى الحي ، غاية الأمر أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) توبة 9 : 122 .
(2) تفسير العياشي 1 : 11 / ح 5 .
(3) النحل 16 : 43 .
ــ[82]ــ
الأدلّة المتقدمة غير دالة على الجواز ، لا أنها تدل على عدم الجواز ، وبين الأمرين بون بعيد .
وأمّا رواية الاحتجاج «من كان من الفقهاء ...» فهي وان لم يبعد دلالتها على حصر الحجية في فتوى الفقيه المتصف بالأوصاف الواردة فيها ، إلاّ أنها لضعفها غير صالحة للاستدلال بها كما مرّ . إذن لا يستفاد من شيء من الكتاب والسنة عدم جواز التقليد من الأموات . نعم ، لو كان الدليل منحصراً بهما لم يمكننا الحكم بجواز تقليد الميت لعدم الدليل عليه إلاّ أن الدليل غير منحصر بهما كما لا يخفى . ثمّ إن الأدلة وإن لم تكن لها دلالة على عدم الحجية ، إلاّ أنه ظهر بما قدّمناه أنه لا مجال للاستدلال باطلاقها على حجية فتوى الميت إذ لا إطلاق لها ، بل الأمر كذلك حتى على تقدير إطلاقها لما عرفت من أنه غير شامل للمتعارضين على ما قدّمنا تقريبه .
الثالث : أن فتوى الميت لو قلنا بحجيتها لا يخلو إما أن نقول باعتبارها حتى إذا كان الميت مساوياً في الفضيلة مع الأموات والأحياء ولم يكن أعلم من كلتا الطائفتين وإمّا أن نقول بحجيتها فيما إذا كان الميت أعلم .
أمّا الصورة الاُولى : فالقول فيها بحجية فتوى الميت وجواز الرجوع إليه وإن كان أمراً ممكناً بحسب مرحلة الثبوت على ما التزمت به العامة وقلّدوا أشخاصاً معيّنين من الأموات ، إلاّ أنه لا يمكن الالتزام به بحسب مرحلة الاثبات لقصور الدليل ، وذلك لما تقدم من العلم بالاختلاف بين الأموات أنفسهم فضلاً عن الاختلاف بين الميت والأحياء ، وقد تقدم أن الأدلة غير شاملة للمتعارضين .
وأما دعوى أن المكلف عند تساوي المجتهدين في الفضيلة يتخير بينهما للاجماع الّذي ادعاه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) على ما يأتي في محلّه (1) . فيدفعها : أن الاجماع على تقدير تسليمه أيضاً غير شامل لفتوى الميت ، لاختصاصه بالمتساويين من الأحياء فإن الأموات قد ادعوا الاجماع على عدم جواز تقليدهم كما مرّ ، ومعه كيف يمكن دعوى الاجماع على التخيير بينهم في أنفسهم أو بينهم وبين الأحياء . على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 93 .
ــ[83]ــ
أ نّا لا نلتزم بالتخيير بوجه حتى إذا كان كلا المجتهدين حياً فضلاً عمّا إذا كان أحدهما ميتاً كما يأتي عن قريب إن شاء الله .
وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا كان الميت أعلم من الكل فالحكم فيها بجواز الرجوع إليه وإن كان ممكناً بحسب مرحلتي الثبوت والاثبات ، للسيرة العقلائية الجارية على الرجوع إلى قول الأعلم من المتخالفين ، بلا فرق في ذلك بين الحي والميت ، ومن هنا قلنا إنهم إذا شخصوا المرض في المريض لراجعوا في العلاج إلى مثل القانون من الكتب الطبية للأطباء الأقدمين ، وقدّموه على قول غيره من الأطباء الأحياء إذا كان مؤلّفه أعلم ولا يراجعون إلى الحي حينئذ ، إلاّ أن السيرة مما لا يمكن الإستدلال بها في المقام ، وذلك لاستلزامها حصر المجتهد المقلد في شخص واحد في الأعصار بأجمعها لأن أعلم علمائنا من الأموات والأحياء شخص واحد لا محالة ، فإذا فرضنا أنه الشيخ أو غيره تعيّن على الجميع الرجوع إليه حسبما تقتضيه السيرة العقلائية ، وذلك للعلم الاجمالي بوجود الخلاف بين المجتهدين في الفتيا ويأتي أن مع العلم بالمخالفة يجب تقليد الأعلم فحسب من دون فرق في ذلك بين عصر وعصر ، وهو مما لا يمكن الالتزام به لأنه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة ولا يسوغ هذا عندهم بوجه لتكون الأئمة ثلاثة عشر .
وبهذا تكون السيرة العقلائية مردوعة ، فلا يبقى أي دليل يدل على جواز تقليد الميت إذا كان أعلم من كلتا الطائفتين ، هذا كلّه في المقام الأول وهو تقليد الميت إبتداءً .
2 ـ البقاء على تقليد الميت
والكلام فيه أيضاً يقع في صورتين :
إحداهما : ما إذا احتمل موافقة الميت مع المجتهد الحي في الفتوى ولم يعلم المخالفة بينهما .
وثانيتهما : ما إذا علمت المخالفة بينهما .
أما الصورة الاُولى : فيمكن أن يستدل فيها على جواز البقاء على تقليد الميت بجميع الوجوه المتقدمة في الاستدلال على جواز تقليده بحسب الابتداء .
ــ[84]ــ
أدلة المثبتين
الأوّل : الاستصحاب ، أعني استصحاب حجية فتوى الميت قبل موته ، ولا يرد عليه ما أوردناه على استصحابها في تقليده إبتداء ، من أن الحجية الفعلية مقطوعة الخلاف إذ لا وجود للمكلف في عصر المجتهد فضلاً عن عقله وغيره من الشروط وقد مرّ أن الفعلية متوقفة على وجود المكلف في عصر المجتهد ، والحجية الإنشائية على نحو القضية الحقيقية مردّدة بين الطويل والقصير ، والقدر المتيقن منها هي الحجية مادام الحياة ، وأمّا جعلها لفتوى الميت حتى بعد الممات فهو مشكوك فيه من الابتداء والأصل عدم جعلها زائداً على القدر المتيقن .
والوجه في عدم وروده على استصحاب الحجية في المقام ، أن الحجية المستصحبة إنما هي الحجية الفعلية في محل الكلام لأن العامّي قد كان موجوداً في عصر المجتهد الميت واجداً لجميع الشرائط ، بل قد كان قلّده برهة من الزمان ولكنّا نشك في أن الحجية الفعلية هل كانت مطلقة وثابتة حتى بعد الممات ، أو أنها مقيدة بالحياة فلا مانع من استصحاب حجية فتواه بعد الممات .
وبهذا يتضح أن المستصحب هو الحكم الظاهري أعني حجية فتوى الميت قبل موته ، ومعه ليس هناك أيّ خلل في أركان الاستصحاب لليقين بالحجية الفعلية والشك في بقائها ، وليس المستصحب هو الحكم الواقعي الّذي أفتى به المجتهد حال الحياة ليرد عليه أن الاستصحاب يعتبر في جريانه اليقين بتحقق المستصحب وحدوثه لدى الشك في البقاء ، وهذا في موارد ثبوت المستصحب باليقين الوجداني من الظهور بمكان لأن المكلف حينما يشك في بقاء المستصحب يتيقن من حدوثه بالوجدان ، وكذا في موارد ثبوته بالعلم التعبدي ، كما إذا ثبتت نجاسة شيء بالبينة أو ثبتت نجاسة العصير المغلي بالرواية وشككنا بوجه في بقائها، فإن لنا حينئذ يقيناً في ظرف الشك بحدوث المستصحب وتحققه وإن كان يقيناً تعبدياً ، لوضوح أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين كون اليقين السابق وجدانياً أو تعبدياً ، كما لا فرق من هذه الناحية بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية .
وأمّا في موارد استصحاب الحكم الواقعي الثابت بفتوى المجتهد بعد موته فلا يقين
ــ[85]ــ
من حدوث المستصحب حينما يشك في بقائه وارتفاعه ، فلو أفتى المجتهد بنجاسة العصير العنبي بالغليان وشككنا فيها بعد موته للشك في حجية فتواه بعد الممات ، لم يكن لنا يقين وجداني لدى الشك من ثبوت النجاسة للعصير بالغليان حال حياة المجتهد ، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى البيان والاستدلال ، كما لا يقين تعبدي بنجاسته للشك في حجية فتوى الميت بعد موته ، وحيث إنه شك سار لاحتمال انقطاع حجية فتواه وطريقيتها بالممات ، فلا طريق لنا بالفعل إلى استكشاف نجاسة العصير بالغليان حتى نستصحبها إذا شككنا في بقائها وارتفاعها .
والمتلخص : أن استصحاب الحجية على مسلك المشهور مما لا شبهة فيه . نعم على ما سلكناه من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لا يمكننا التمسك بالاستصحاب في المقام لأن الشبهة حكمية ، إذ الشك في أن الشارع هل جعل الحجية الفعلية مطلقة أو جعلها مقيّدة بالحياة ، فيكون استصحاب بقاء الحجية الفعلية معارضاً باستصحاب عدم جعل الحجية لفتوى الميت زائداً على القدر المتيقن وهو حال الحياة . إذن لا مجال للاستصحاب ولا بدّ من التماس دليل آخر على جواز البقاء .
الثاني : المطلقات ، لأن آية النفر تقتضي وجوب العمل على طبق إنذار المنذر إذا أنذر وهو حي ، ولم تدل على اختصاصه بما إذا كان المنذر باقياً على الحياة حال العمل بفتواه وإنذاره . وعلى الجملة أنها تدلنا باطلاقها على أن إنذار الفقيه حجة مطلقاً سواء كان حياً عند العمل به أم لم يكن ، وكذلك آية السؤال والأخبار الآمرة بالأخذ من محمد بن مسلم أو زكريا بن آدم أو غيرهما ، لأنهما إنما دلتا على وجوب السؤال من أهل الذكر أو الأخذ من الأشخاص المعينين ، ولم يدلا على تقييد ذلك بما إذا كان أهل الذكر أو هؤلاء الأشخاص حياً عند العمل بقوله . نعم ، يعتبر أن يكون الأخذ والسؤال كالانذار حال الحياة ، وهو متحقق على الفرض .
فالمتحصل : أن المطلقات شاملة للميت والحي كليهما ، لعدم العلم بمخالفتهما في الفتوى على الفرض وأن مقتضاها جواز البقاء على تقليد الميت .
الثالث : السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم فيما جهله من الحِرف والعلوم والموضوعات وغيرها ، بلا فرق في ذلك بين أن يكون العالم باقياً على
ــ[86]ــ
حياته عند العمل بقوله وعدمه ، لوضوح أن المريض لو رجع إلى الطبيب وأخذ منه العلاج ثمّ مات الطبيب قبل أن يعمل المريض بقوله ، لم يترك العقلاء العمل على طبق علاجه ، وهذه السيرة لم يردع عنها في الشريعة المقدسة لأن ما قدّمناه من الردع يختص بسيرتهم الجارية على الرجوع إلى العالم الميت من الابتداء ، لأنها وإن كانت محرزة كما مرّ إلاّ أن قيام الضرورة على بطلان انحصار المقلد في شخص واحد رادع عنها كما عرفت وهذا لا يأتي في المقام كما ترى ، إذ لا يلزم من البقاء على تقليد الميت محذور الانحصار ، فالأدلة مقتضية لجواز البقاء ولا مانع عنه سوى الاجماع المدعى في كلام شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) حيث استظهر من كلمات المجمعين وإطلاقها عدم جواز تقليد الميت مطلقاً ولو بحسب البقاء(1) إلاّ أنه غير صالح للمانعية ، وذلك لما عرفت من أنّا لم نعتمد على إجماعهم هذا في تقليد الميت الابتدائي فضلاًعن أن نستدل به على عدم جواز التقليد البقائي ، حيث إن جماً غفيراً ممن منعوا عن تقليد الميت ذهبوا إلى جواره .
إذن الصحيح فى تقليد الميت هو التفصيل بين الابتداء والبقاء فلا يجوز في الأول ويجوز في الثاني ، بل يجب في بعض الصور كما يأتي تفصيله إن شاء الله .
بقي أمران
أحدهما : أنه هل يشترط في جواز البقاء على تقليد الميت أو وجوبه ، العمل بفتواه قبل موته أو لا يشترط فيه العمل ؟
قد يتوهّم ـ والمتوهم كثير ـ أن الحكم في المسألة يختلف بالاختلاف فى معنى التقليد وتفسيره ، فإن قلنا إن التقليد هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل وأنه لون من ألوانه فلابدّ من اشتراط العمل في الحكم بجواز البقاء فإن تقليد الميت من دون العمل بفتواه قبل موته من التقليد الابتدائي لا محالة وقد عرفت عدم جوازه . وأمّا إذا فسّرناه بالأخذ أو الإلتزام بالعمل بفتوى الغير ، فلا وجه لاشتراط العمل في الحكم بجواز البقاء ، بل يكفي فيه مجرد الالتزام بالعمل قبل موت المجتهد .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 93 .
ــ[87]ــ
وهذا التوهم لا يبتني على أساس صحيح فإن مسألتنا هذه غير مبتنية على ملاحظة معنى التقليد بوجه ، حيث إن البقاء على تقليد الميت بهذا العنوان لم يرد في آية أو رواية ليختلف بالاختلاف في معنى التقليد ، وإنما نلتزم بجوازه أو بعدمه من جهة الأدلة المتقدمة المثبتة لأحدهما. إذن لا بدّ من الرجوع إلى ما دلّ على جواز البقاء لنرى أنه هل يدلنا على شرطية العمل أو لا يدل .
فنقول : إن استندنا في الحكم بجواز البقاء على استصحاب الحجية فلا يشترط العمل في جواز البقاء ، لوضوح أن الاستصحاب لا يقتضي هذا الاشتراط حيث إن حجية فتوى المجتهد قبل موته غير مشروطة بالعمل ، لأنها تتصف بالفعلية بمجرّد تحقق موضوعها ، وهو المكلف بما له من الشروط من العقل والبلوغ وغيرهما ، سواء عمل بها المكلف أم لم يعمل ، ومع الشك في أن تلك الحجية مطلقة أو مقيدة بالحياة نستصحب حجيتها الفعلية بعد الممات .
وكذلك إذا كان المستند هو الإطلاقات أو السيرة العقلائية ، لأن مقتضى إطلاق الأدلة أن إنذار المنذر الحي أو قول أهل الذكر أو غيرهما من العناوين حجة على المكلف ، عمل به ما دام المنذر حياً أم لم يعمل به ، كما أن مقتضى السيرة أن الجاهل يجوز أن يرجع إلى العالم ويعمل على طبق قوله ونظره ، سواء سبق منه العمل بقوله في حياته أم لم يسبق . إذن التحقيق أن جواز البقاء على تقليد الميت أو وجوبه لا يشترط فيه العمل برأيه في حياته .
وثانيهما : أن البقاء على تقليد الميت هل يشترط في جوازه أو وجوبه أن يكون المقلّد ذاكراً لفتواه بعد موته ، بحيث لو نسيها حينئذ بعدما أخذها وتعلّمها لم يجب أو لم يجز له البقاء ، أو أن الذكر كالعمل غير معتبر في جواز البقاء أو وجوبه ؟ الصحيح إعتبار الذكر في البقاء ، وذلك لأن بالنسيان ينعدم أخذه السابق ورجوعه إلى الميت قبل موته لأنه لا يترتّب معه أثر عليهما ، فإن المقلّد حينئذ إنما يعلم أن الميت أفتى في مسألة العصير مثلاً إما بنجاسته ـ على تقدير غليانه ـ أو بطهارته ، وهو كالعلم الاجمالي بأن الحكم الواقعي إمّا هو الحرمة أو الاباحة ليس بمورد للأثر بل يحتاج إلى رجوع جديد ، وجواز الرجوع إلى الميت حينئذ يحتاج إلى دليل لأنه تقليد إبتدائي من
ــ[88]ــ
الميت ، ولا فرق بين الرجوع إليه وبين الرجوع إلى غيره من المجتهدين الأموات من الإبتداء ، حيث إن كليهما رجوع إلى المجتهد بعد الموت وهو المعبّر عنه بالتقليد الابتدائي ، وقد تقدم عدم جوازه . ومعه يشترط في جواز البقاء على تقليد الميت أو وجوبه أن لا يكون المقلّد ناسياً لفتوى الميت ، هذا كلّه في الصورة الاُولى .
وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا علمنا بالمخالفة بين المجتهد الميت والحي الّذي يسوغ الرجوع إليه في الفتوى ، فلا شبهة في أن العمل بما هو الموافق منهما للاحتياط مؤمّن من العقاب سواء أ كان فتوى الميت أم الحي ، كما إذا أفتى أحدهما بالوجوب والآخر بالاباحة . وأمّا إذا فرضنا أن كلتا الفتويين على خلاف الاحتياط أو أن كلتيهما على وفق الاحتياط من جهة وعلى خلافه من جهة اُخرى ، فلا يخلو إما أن لا يعلم أعلمية أحدهما ـ علم تساويهما أيضاً أم لم يعلم ـ وإمّا أن يعلم أعلمية الميت من الحي أو العكس :
أمّا الصورة الاُولى : أعني ما إذا لم يعلم أعلمية أحدهما مع العلم بمخالفتهما في الفتوى ، فلا يكاد أن يشك في أن الفتـويين سـاقطتان حينئذ عن الاعـتبار لأن الاطلاقات كما مرّ غير شاملة للمتعارضين ، فلا حجية لفتوى الميت ولا الحي ومعه يتعيّن على المكلف الاحتياط ، لأن الأحكام الواقعية متنجزة في حقه ولا يمكنه الخروج عن عهدتها إلاّ بالاحتياط ، هذا إذا تمكن من الاحتياط .
وأمّا إذا لم يتمكّن من الاحتياط إما لدوران الأمر بين المحذورين وإمّا لعدم سعة الوقت للاحتياط ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر في مورد وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه ولم يسع الوقت للجمع بين القصر والتمام ، فهل حينئذ يجب الرجوع إلى أحدهما المعيّن لحجية نظره في حقه ، أو أن كلتا الفتويين ساقطتان عن الحجية كما في الصورة المتقدمة والوظيفة هو الامتثال الاحتمالي وهو العمل على طبق إحداهما مخيّراً لأن المكلف إذا لم يتمكن من الامتثال الجزمي في مورد تنزّل العقل إلى الامتثال الاحتمالي ؟
الأخير هو الصحيح ، لعدم دلالة الدليل على حجية إحداهما المعيّنة بعد سقوط الاطلاقات عن الحجية بالمعارضة ، ومعه يتنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالى لأنه
ــ[89]ــ
الميسور للمكلف ، وهذا هو التخيير في مقام الامتثال لا أنه من التخيير في المسألة الأصولية لمكان حجية إحداهما شرعاً .
وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا علمنا أعلمية أحدهما ، فالمتعين هو الرجوع إلى أعلمهما سواء كان هو الميت أم الحي ، وذلك لأن الاطلاقات وإن لم تشمل شيئاً من فتواهما للمعارضة ، إلاّ أن السيرة العقلائية قد جرت على الرجوع إلى الأعلم من المتعارضين بلا فرق في ذلك بين اعلم الحي والميت ، ولم يردع عنها فى الشريعة المقدّسة . إذن لا مناص في المقام من التفصيل بين ما إذا كان الميت أعلم من الحي فيجب البقاء على تقليده ، وما إذا كان الأعلم هو الحي فلا يجوز البقاء على تقليد الميت .
هذا إذا لم تجر سيرة العقلاء على العمل بالاحتياط عند العلم بأعلمية أحد المجتهدين المتخالفين في الفتوى ، أو لم نحرز سيرتهم وإلاّ فالمتعين هو العمل على طبق الاحتياط ، هذا إذا علمت المخالفة بينهما أو لم تعلم .
وأما لو علمنا بموافقة المجتهد الميت مع الحى فلا يترتب أثر عملى على البحث عن جواز البقاء على تقليد الميت ، لوضوح أن العمل الصادر على طبق الفتويين محكوم بالصحة مطلقاً ، قلنا بجواز البقاء على تقليد الميت أم لم نقل . أللّهم إلاّ على القول بوجوب الاستناد إلى الحجة في مقام الامتثال ، كما ذهب إليه شيخنا الاستاذ (قدّس سرّه) حيث ذكر أن الحجج لا يكاد تتصف بالحجية بوجودها الخارجي وإنما تكون الحجة حجة فيما إذا استند إليها المكلف فى عمله(1) . وعليه لو قلنا بجواز البقاء على تقليد الميت جاز الاستناد إلى فتواه لا محالة ، بحيث لو استندنا إليها وكان الحكم الواقعي على خلافها لم نستحق العقاب على مخالفته لاستنادنا إلى الحجة على الفرض كما إذا لم نقل بجواز البقاء لم يجز الاستناد إلى فتوى الميت لعدم ككونها معذّرة وحجة على الفرض وعلى ذلك ينبغى التكلم في موردين :
1 ـ جواز البقاء على تقليد الميت عند العلم بموافقته مع الحي .
2 ـ أن الاستناد إلى الحجة أمر لازم أو لا دليل على لزومه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2 : 70 .
ــ[90]ــ
أمّا المورد الأول : فقد اتضح مما سردناه فى المقام جواز البقاء على تقليد الميت عند العلم بموافقته مع الحي ، لأن الاطلاقات تشمل حينئذ فتوى كل من الحي والميت كما أنها تشمل كل حجتين متوافقتين كالبينتين الموافقتين في المفاد أو الروايتين المتحدتين في المدلول ، وإنما منعنا عن شمولها لهما عند العلم بمخالفتهما فى الفتوى للتعارض المفروض عدمه فى المقام ، ومع شمول أدلة الاعتبار فتوى كليهما لا موجب للمنع عن جواز البقاء على تقليد الميت بوجه .
وأمّا المورد الثاني : فالتحقيق أن الحجة لا دليل على لزوم الاستناد إليها في مقام الامتثال والوجه فيه أن الأثر المترتب على الحجية أمران :
أحدهما : تنجيز الواقع .
ثانيهما : التعذير عن مخالفته .
أمّا المنجزية ، فلم يناقش شيخنا الاستاذ (قدّس سرّه) ولا غيره في أن الواقع إنما يتنجز بوجود الحجة ، وكونها في معرض الوصول بحيث لو فحص عنها المكلف لظفر بها ، ولا يتوقف كونها منجزة بعلم المكلف بها فضلاً عن استناده إليها ، فإنها منجزة للواقع علم بها المكلف أم لم يعلم ، بحيث لو لم يعمل على طبقها إستحق العقاب على مخالفة التكليف المنجّز في حقه بقيام الحجة عليه ، ومن ثمة قلنا بوجوب الفحص في الشبهات الحكمية لأن احتمال وجود الحجة في الواقع ـ على نحو لو فحص عنها ظفر بها ـ كاف في تنجز الواقع واستحقاق العقاب على مخالفته ، لوضوح أن العقاب مع كون الحجة في معرض الوصول ليس عقاباً بلا بيان وإنما هو من العقاب مع البيان .
وأما التعذير فالأمر فيه أيضاً كسابقه ، لأنا إذا منعنا عن البقاء على تقليد الميت ووجب على العامّي أن يراجع الحي وكان فتواهما على إباحة فعل وهو واجب واقعاً وتركه المكلف لا عن استناد إلى فتوى الحي بالاباحة بل لاشتهاء نفسه ورغبته مع العلم بقيام الحجة على الاباحة ، فهل يصح عقابه على مخالفته الواقع أو أن العلم بقيام الحجة على الاباحة يكفي في جواز الارتكاب وإن لم يستند إليها في مقام العمل ؟
لا ينبغي التردد في عدم صحة عقابه لأنه بلا بيان بل هو من العقاب مع بيان العدم وهو أقبح من العقاب من دون بيان ، نعم إذا لم يعلم بافتائهما على الاباحة وتركه
ــ[91]ــ
[ 10 ] مسألة 10 : إذا عدل عن الميت إلى الحيّ لا يجوز له العود الى الميت(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المكلف لاشتهاء نفسه إستحق العقاب على مخالفة الواقع لمكان أنه منجز في حقه ولم يستند في مخالفته إلى مؤمّن فإن الأمن من العقاب إنما يحصل بالاستناد إلى الحجة أو العلم بقيامها على الاباحة، هذا كلّه فيما إذا كانت فتواهما أو فتاوى المجتهدين المتعددين على خلاف الاحتياط .
وأمّا إذا كانت على وفق الاحتياط كما إذا أفتيا بوجوب السورة في الصلاة وأتى بها المكلف من باب الاحتياط لا الاستناد إلى فتواهما ، فلا إشكال في صحة عمله لأنه عمل بالاحتياط وموجب للقطع بالامتثال وإن لم يستند في عمله إلى شيء من الحجتين أو الحجج ، إلاّ أنه خارج عن محل الكلام إذا البحث إنما هو في لزوم الاستناد عند اتفاق فتوى الميت والحي أو الفتاوى ، فالعمل بالاحتياط أج نبي عمّا نحن بصدده .
والمتحصل : أن الاستناد إلى الحجة لا دليل على لزومه ، سواء علمنا بالموافقة بين الحي والميت أو المجتهدين المتعددين أم لم نعلم بالوفاق أو علمنا بالخلاف .
إذن لا أثر للبحث عن جواز البقاء على تقليد الميت عند العلم بموافقتهما . نعم ، لو قلنا بعدم جواز البقاء على تقليد الميت واستند المكلف في عمله إلى فتواه ، كان هذا تشريعاً محرّماً لأنه إسناد للحجية إلى ما لم يتعتبره الشارع حجة وقابلاً للاستناد إليه وهذا بخلاف ما إذا جوزنا البقاء إلاّ أنه أمر آخر غير راجع إلى التقليد في محل الكلام .
ثمّ إن بما سردناه في تقليد الميت بحسب البقاء يظهر الحال في تقليده بحسب الابتداء عند العلم بموافقته مع الحي ، لأنه أيضاً لا يترتب عليه ثمرة إلاّ على القول بلزوم الاستناد إلى الحجة في مقام الامتثال وقد تقدم فساده .
أحكام العدول
(1) والوجه في ذلك : أن التقليد عند الماتن (قدّس سرّه) هو الالتزام فإذا عدل المكلف عن الميت إلى الحي فقد رفع يده عن التزامه وأبطل تقليده من الميت فكأنه لم يراجع إليه من الابتداء ، ومعه لو عدل من الحي إلى الميت كان هذا تقليداً إبتدائياً من الميت ، وهو ممنوع كما مرّ .
ــ[92]ــ
[ 11 ] مسألة 11: لايجوز العدول عن الحي إلى الحي إلاّ إذا كان الثاني أعلم(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه : أن مسألة البقاء على تقليد الميت ليست واردة في آية أو رواية حتى يلاحظ أن معناه الالتزام ، كي يترتب عليه عدم جواز العدول إلى الميت في المقام أو أنه بمعنى العمل حتى يجوز فلا يختلف حكم المسألة بالاختلاف في معنى التقليد ، هذا .
وقد يقال : إن الوجه في عدم جواز العدول إلى الميت قاعدة الاشتغال ، لأن الأمر في المقام يدور بين التعيين والتخيير ، إذ الشك في أن فتوى الحي حجة تعيينية أو تخييرية لاحتمال أن تكون فتوى الميت أيضاً حجة ، والعقل يستقل حينئذ بلزوم الأخذ بما يحتمل تعيّنه لأنه مقطوع الحجية والآخر مشكوك الاعتبار ، والشك في الحجية يساوق القطع بعدمها .
ويرد عليه : أن هذا إنما يتم فيما إذا كان المجتهد الحي أعلم من الميت . وأمّا لو فرضنا أن الميت أعلم من الحي مع العلم بالمخالفة بينهما ، فلا يحتمل تعين فتوى الحي عليه بل الأمر بالعكس لاحتمال تعيّن البقاء على تقليد الميت الأعلم ولا أقل من تساويهما في الاحتمال ، فأين هناك دوران الأمر بين التعيين والتخيير ؟
ولو فرضنا تساوي الميت والحي مع العلم بالمخالفة بينهما ، فمقتضى القاعدة سقوط فتواهما عن الاعتبار للمعارضة ولا يبقى معه أيضاً لدوران الأمر بين التعيين والتخيير مجال . فالصحيح أن يلاحظ حال العدول فإن كان عدول المكلف إلى الحي عدولاً صحيحاً شرعياً ، لم يكن أي مسوغ للعدول عنه إلى الميت حالئذ فإن صحة العدول إنما تكون في موردين :
أحدهما : فيما إذا كان الحي أعلم من الميت .
وثانيهما : فيما إذا كان الميت أعلم إلاّ أن المكلف نسي فتواه .
إذ معه لا مسوّغ للبقاء على تقليد الميت والمفروض أن عدوله إلى الحي صحيح ومع فرض صحة العدول لا مجوّز بوجه للعدول عنه إلى تقليد الميت . نعم ، إذا لم يصح عدوله إلى الحي لأن الميت أعلم أو لأن المكلف ذاكر لفتواه فلا مناص من أن يعدل إلى الميت ، ولا يضرّه الرجوع إلى الحي حينئذ لأنه كالعدم لبطلانه شرعاً .
(1) إذا قلّد المكلّف مجتهداً ثمّ أراد العدول عن تقليده إلى مجتهد آخر ، فإن كان
ــ[93]ــ
ذلك المجتهد الّذي يريد العدول إلى تقليده أعلم ممن كان يقلّده أولاً ، جاز له البقاء على تقليد المجتهد الأول كما جاز له العدول إلى من هو أعلم منه وذلك لعدم العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى ، ويأتي أنه إذا لم يعلم المخالفة بين فتوى الأعلم وغير الأعلم جاز تقليد غير الأعلم ولا يجب الفحص عن المخالفة بينهما ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله.(1) نعم ، إذا عدل ثمّ علم بالمخالفة بينهما لم يجز له أن يرجع إلى الأول ، لأنه يشترط في جواز تقليد غير الأعلم عدم العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم في الفتوى .
وأما إذا كان المجتهد الثاني مساوياً في الفضيلة مع المجتهد الأول ، فأيضاً يتخير المكلف بين البقاء على تقليد الأول وبين الرجوع إلى الثاني لعدم العلم بالمخالفة بينهما وأما لو عدل ثمّ التفت إلى المخالفة بينهما ، أو علم بالمخالفة قبل العدول فبناءً على ما يأتي من أن القاعدة تقتضي التساقط حينئذ ، لم يجز البقاء على تقليد المجتهد الأول ولا الرجوع إلى المجتهد الآخر لسقوط فتواهما عن الحجية بالمعارضة ، وأما على المسلك المشهور من أن القاعدة تقتضي التخيير عند تعارض الحجتين ، فيقع الكلام في المقام في أن التخيير هل هو إستمراري وقتئذ بمعنى أن المكلف يتخير بين البقاء على تقليد المجتهد الأول والرجوع إلى المجتهد الآخر كما كان مخيراً بينهما حدوثاً فلا مانع من العدول عن الحي إلى الحي ، أو أن التخيير إبتدائي فحسب فلا يجوز العدول من الحي إلى الحي . والتكلم على ذلك وأن التخيير إستمراري أو إبتدائي وإن كان لا يناسبه ما اخترناه من التساقط إلاّ أ نّا نتعرض له تتميماً للفائدة .
حكم التخيير عند تساوي المجتهدين
ذهب جماعة إلى عدم جواز العدول عن الحي إلى الحي ، بل عن غير واحد حكاية الاجماع عليه واختاره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالة الاجتهاد والتقليد (2) وعن المحقق والشهيد الثانيين التصريح بجوازه تبعاً للمحكي عن النهاية وعليه بنى بعض مشايخنا المحققين (قدّس الله
أسرارهم)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 133 .
(2) الاجتهاد والتقليد : 65 .
(3) الاجتهاد والتقليد (الاصفهاني) : 148 .
ــ[94]ــ
واستدلّ للجواز بوجهين .
أدلة القول بجواز العدول
أحدهما : الاطلاقات ، لأن ما دلّ على حجية فتوى المجتهد وجواز الأخذ بها غير مقيد بما إذا لم يرجع إلى غيره ، فمقتضى الاطلاق حجية فتوى المجتهد وإن أخذ العامّي بفتوى غيره ، هذا .
وفيه : أ نّا قد تعرضنا لحال التمسك بالاطلاق في التكلم على التعادل والترجيح (1) وبيّنا أن الاطلاق غير شامل للمتعارضين لأنه يستلزم الجمع بين المتنافيين ، ولا أنه يشمل أحدهما المعيّن دون الآخر لأنه بلا مرجح ، ولا لأحدهما غير المعين لما سيأتي من أن الحجية التخييرية مما لا يمكن المساعدة عليه (2) .
وثانيهما : الاستصحاب ، وذلك لأن المكلف قبل الأخذ بفتوى أحدهما كان مخيّراً بين الأخذ بهذا أو بذاك ، لفرض أن المجتهدين متساويان وفتوى كل منهما واجدة لشرائط الحجية ، فإذا رجع إلى أحدهما وشككنا لأجله في أن فتوى الآخر باقية على حجيتها التخييرية أو أنها ساقطة عن الاعتبار ، حكمنا ببقاء حجيتها التخييرية بالاستصحاب ، ومقتضى ذلك أن المكلف مخيّر بين البقاء على تقليد المجتهد الأول والعدول إلى المجتهد الّذي يريد العدول إليه .
وهذا الاستدلال يمكن المناقشة فيه من جهات :
الجهة الاُولى : أن الاستصحاب ، على ما بيّناه في محله (3) يعتبر في جريانه إتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها ، ولا يتحقق هذا إلاّ ببقاء الموضوع فيه ، ولم يحرز بقاؤه في المقام ، وذلك لأن الحكم بالتخيير إن قلنا إن موضوعه من لم يقم عنده حجة فعلية فلا شبهة في أن ذلك يرتفع بالأخذ بإحدى الفتويين لأنها صارت حجة فعلية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 3 : 366 .
(2) راجع ص 132 .
(3) مصباح الاُصول 3 : 227 .
ــ[95]ــ
بأخذها ، فلا موضوع لاستصحاب التخيير وهو ظاهر ، وإن قلنا إن موضوعه من تعارض عنده الفتويان ، نظير من تعارض عنده الخبران أو جاءه حديثان متعارضان الّذي هو الموضوع للحكم بالتخيير في تعارض الروايتين على القول به ، فهو أمر يرتفع بالرجوع إلى إحدى الفتويين . فلو شككنا بعد ذلك في بقاء الحكم بالتخيير وارتفاعه لم يكن مانع من استصحابه بوجه ، ولكنا لم نحرز أن الموضوع أيهما حيث إن مدعي التخيير في المسألة إنما يروم إثباته بالاجماع أو السيرة وهما دليلان لبيان وليسا من الأدلة اللفظية ، لنستظهر أن موضوع الحكم فيها مَن تعارض عنده الفتويان كما استظهروا ذلك في تعارض الروايتين وقالوا إن مقتضى الروايات أن موضوع الحكم بالتخيير مَن جاءه حديثان متعارضان ، أو تعارض عنده الخبران وهذا باق بحاله قبل الأخذ بأحدهما وبعده ، بحيث لو لم يكن لتلك الروايات عموم أو إطلاق مثبت للتخيير بعد الأخذ بأحدهما أمكننا استصحابه لبقاء موضوعه . وهذا بخلاف المقام لدوران الموضوع فيه بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع . وقد ذكرنا غير مرة أن في مثله لا مجال للاستصحاب بالكلية لأنه لا يجري في الموضوع ولا في حكمه ، أمّا عدم جريانه في الحكم فلأجل الشك في بقاء موضوعه ، وأما عدم جريانه في الموضوع فلأجل أن استصحابه بوصف أنه كذلك عبارة اُخرى عن استصحاب الحكم نفسه ، وأما ذاته لا بوصف أنه موضوع فهو ليس بمورد للاستصحاب فإنه لا شك فيه ، حيث إنه مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع .
الجهة الثانية : أن الاستصحاب إن تمّ فإنما يتم فيما إذا كانت الحالة السابقة هو التخيير ، ولا يتم فيما إذا كان المجتهد الأول أعني من يريد العدول عنه أعلم ممن يريد العدول إليه ، إلاّ أنه ترقى متدرجاً حتى بلغ مرتبة المجتهد الأول وساوى معه في الفضيلة ، لأنا إذا شككنا حينئذ في تعين البقاء على تقليد الأول وجواز الرجوع إلى المجتهد الثاني ، لم يمكننا استصحاب التخيير بوجه إذ ليست له حالة سابقة لتستصحب بل الحالة السابقة هو التعيين لما فرضناه من أنه أعلم من المعدول إليه . إذن الاستدلال بالاستصحاب أخص من المدعى .
الجهة الثالثة : أن الاستصحاب غير تام في نفسه ، لأنه من الاستصحابات الجارية
ــ[96]ــ
في الأحكام وقد بيّنا غير مرّة أن الأحكام الكلّية ليست مورداً للاستصحاب لابتلائه بالمعارض دائماً على ما قرّرناه في محلّه .
الجهة الرابعة : أ نّا لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على جريان الاستصحاب في الأحكام أيضاً لم يكن مجال لاستصحاب التخيير في المقام ، لأنه مبتلى بالمعارض وهو استصحاب الحجية الفعلية للفتوى المأخوذ بها وتوضيحه :
أن الحجية التخييرية لا معنى محصل لها ، حيث إن الحجة بمعنى الطريقية والوسطية في الاثبات أعني جعل ما ليس بعلم علماً تعبداً ، إذن ما معنى كون الحجة تخييرية ؟ فإن اُريد بها أن الجامع بين ما أدى من الأمارات إلى حرمة شيء وما أدى إلى وجوبه قد جعل علماً تعبداً وطريقاً مستكشفاً عن الواقع على ما ذكرناه في الواجبات التخييرية وقلنا إن الواجب التخييري هو الجامع بين الفعلين والخصوصيات الفردية أو النوعية كلّها خارجة عن حيّز الطلب إلاّ أن المكلف له أن يطبقه على هذا وذاك ، فهو وإن كان أمراً معقولاً في نفسه إلاّ أنه في الحجية مما لا محصّل له ، فإن اعتبار الطبيعي الجامع بين ما دلّ على وجوب شيء وما دلّ على حرمته ، علماً تعبداً وحجة كاشفة عن الواقع معناه أن الجامع بين المتنافيين قد جعل طريقاً إلى الواقع ، ولا معنى لجعل الجامع بين الضدّين مثلاً طريقاً وكاشفاً عن الواقع فلا معنى للحجية التخييرية ، أللّهمّ إلاّ أن يرجع إلى إيكال أمر الحجية إلى اختيار المكلف بأن يتمكن من أن يجعل ما ليس بحجة حجة بأخذه فتوى أحد المتساويين ، لأنه حينئذ قد جعل الفتوى المأخوذ بها حجة فعلية وطريقاً إلى الواقع بعد ما لم يكن كذلك ، والحجية التخييرية بهذا المعنى صحيحة إلاّ أنها ليست مورداً للاستصحاب لابتلائه بالمعارض، وذلك لأن فتوى أحد المتساويين إذا اتصفت بالحجية الفعلية لأخذ المكلف بها ، وشككنا في أن فتوى المجتهد الآخر هل يجوز الأخذ بها أو لا يجوز جرى هناك استصحابان متعارضان، أحدهما : إستصحاب جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر الّذي نشك في جواز الأخذ بها بقاءً ، لأنه مسبوق بالجواز على الفرض . وثانيهما : إستصحاب حجية ما اتصف بالحجية الفعلية بالأخذ به ، لأن الأصل عدم سقوطه عن الحجية بالرجوع إلى المجتهد الآخر ، فاستصحاب بقاء التخيير بالنسبة إلى ما لم يأخذ به قبل ذلك ،
ــ[97]ــ
معارض باستصحاب بقاء الحجية الفعلية فيما أخذ به .
وأما ما عن شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) من أن استصحاب الحجية التخييرية حاكم على استصحاب بقاء الحجية في أحدهما المعين (1) فمما لا يمكن المساعدة عليه، لما عرفت من أن الحجية التخييرية لا معنى لها سوى إيكال أمر الحجية إلى اختيار المكلف ، بأن تتصف الفتوى بالحجية الفعلية بأخذها ، ومن الظاهر أن عدم الحجية الفعلية بهذا المعنى ليس من الآثار الشرعية المترتبة على بقاء الحجية التخييرية ليكون استصحابها حاكماً على استصحاب بقاء الحجية التعيينية، وإنما هو من الآثار العقلية الّتي لا يترتب على الاستصحاب بوجه ، هذا .
والصحيح أن اسـتصحاب الحجية التخييرية غير جار في نفسه ، لأنه بمعنى استصحاب الحجية الشأنية أعني الحجية على تقدير الأخذ بها ، وهو من الاستصحاب التعليقي ولا نقول به حتى إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية في موارد الأحكام التخييرية ، ومع عدم جريان الاستصحاب إذا شككنا في حجية فتوى المجتهد الّذي يريد العدول إليه لا مناص من الحكم بعدم حجيتها لأن الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها ، هذا .
ثمّ إن لشيخنا المحقق (قدّس سرّه) كلاماً في المقام وحاصله : أن مقتضى حجية الطرق والأمارات على الطريقية كما هي الأصح ، أن تكون فتوى المجتهد منجّزة للواقع على تقدير الاصابة ومعذّرة عنه على تقدير الخطأ ، وإذا فرضنا أن الفتويين متعارضتان لم يكن معنى لكونهما منجّزتين لعدم احتمال الاصابة في كلتيهما وإنما هي تحتمل في إحداهما . نعم ، لا مانع من أن تكونا معذّرتين ومبرئتين للذمة معاً ، لأن التعارض إنما يمنع عن تصديق دليل الحجية من حيث منجزيتهما للواقع ، إذ لا واقع فيهما ولا يمنع عن تصديقه من حيث معذّريتهما بوجه ، ومعنى ذلك أن الشارع جعلهما معذّرتين تخييراً أي اقتنع عن الواقع بموافقة أحدهما مع دوران عقاب الواقع على مخالفتهما معاً ، وهذا المعنى من الحجية مما لا بدّ من الالتزام به في المقام ، للاجماع والعلم بعدم خروج وظيفة المكلف عن إحدى الفتويين ، وعدم تساقطهما والرجوع إلى غير
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد : 87 .
ــ[98]ــ
فتوى المجتهد ، والمفروض أن الطريق للمقلّد منحصر في اتباع فتوى المجتهد . بل يمكن استفادة ذلك من نفس دليل الحجية لما عرفت من أن التعارض لا يمنع إلاّ عن تصديقه من حيث المنجّزية ، ولا يمنع عن تصديق دليل الحجية من حيث معذّريتهما معاً . فعلى ما ذكرناه من أن الفتويين قد جعلهما الشارع حجتين تخييراً بالمعنى المتقدم إذا شكّ المكلّف بعد العمل بإحدى الفتويين في أن ما أخذ به هل تعيّن في حقه أم أن كلاً منهما باقية على ما كانت عليه من المنجّزية والمعذّرية ، كان مقتضى الاستصحاب بقاءهما على تلك الصفة المجعولة وهي الحجية التخييرية بالمعنى الّذي عرفت .
ومن هذا يتضح أن استصحاب الحكم الّذي أخذه المكلف قبل ذلك لا يوجب تعينه عليه ، لوضوح أنه كان ثابتاً من الابتداء ولم يكن ثبوته مانعاً عن ثبوت الآخر فكيف يمنع عن ثبوته بقاء ، فاستصحاب الحجية الفعلية لقول المجتهد الأول لا ينافي استصحاب الحجية التخييرية لفتوى المجتهد الآخر ، فإن حال الحكمين بحسب البقاء حالهما بحسب الحدوث ، ومعه لا حاجة إلى ما أفاده الشيخ الأجل (قدّس سرّه) من أن استصحاب الحجية التخييرية حاكم على استصحاب الحكم المختار . بل بناء على الطريقية ليس هناك حاكم ولا محكوم ولا حكم شرعي ، وإنما الموجود منجّزية الفتويين ومعذّريتهما ، ومن الظاهر أن حجية الفتوى المأخوذ بها بالمعنى المتقدم ، غير مانعة عن حجية الاُخرى بوجه وكلتاهما في عرض واحد .
نعم ، لو قلنا بلزوم الالتزام بالحكم فيتحقق هناك حاكم ومحكوم ، لأن الحكم بالالتزام بهذا أو بذاك أمر ، ووجوب القصر أو وجوب الاتمام أمر آخر ، إلاّ أن وجوب الالتزام لو ثبت فإنما يخص التقليد ولا يأتي في العمل بالخبرين ، بل لا يمكن تصديقه في التقليد أيضاً ، لأنه يبتني على أن يكون التقليد هو الالتزام وقد مرّ أنه العمل دون الالتزام .
أضف على ذلك أن الالتزام لا معنى محصّل له إلاّ أن يتعلق بالحكم الفعلي، لأن الالتزام مقدمة للعمل بمتعلقه فلا مناص من أن يكون متعلقه أمراً صالحاً للبعث نحو العمل ، ولا يعقل أن يكون كلا الحكمين فعلياً تعيينياً ، لأنهما متعارضان . إذن لا مناص من أن يكون الحكمان فعليين تخييريين تحقيقاً للالتزام بهذا أو بذاك ، ومعه لا يكون استصحاب الحكم المختار موجباً للتعين وإنما يقتضي الاستصحاب بقاء كل من
ــ[99]ــ
الحكمين على ما كان عليه أولاً . إنتهى ما أردنا نقله ملخّصاً موضّحاً (1) .
ويرد عليه : أ نّا بيّنا فيما سبق وسنبين قريباً أيضاً أن الحجية التخييرية لا معنى محصل لها سوى إيكال أمر الحجية إلى اختيار المكلف ، بحيث يتمكن من أن يجعل ما ليس بحجة حجة باختياره وأخذه ، ومرجعه إلى حجية كل من الفتويين مشروطة بالأخذ بها ، ومعنى الحجية بناءً على ما هو الصحيح من الطريقية ، هو الكاشفية والوسطية في الاثبات أعني جعل ما ليس بعلم علماً تعبداً ، ونتيجة ذلك أن المجعول شرعاً إنما هو إحراز الواقع تعبداً لا المنجزية والمعذرية لأنهما من الأحكام العقلية المترتبة على الحجية بالمعنى الّذي ذكرناه ، لا أن الحجية هي المنجزية والمعذرية . ويترتب على هذا أن المكلف إذا أخذ بإحدى الفتويين كانت الفتوى المأخوذة حجة فعلية عليه ، ولازمها أن يكون الحكم الّذي أدّت إليه الفتوى المأخوذة متنجزاً عليه ومع صيرورة الفتوى الاُولى حجة فعلية لا تبقى الفتوى الثانية على الحجية التخييرية بوجه ، كما أن الحكم الفرعي قد تنجز على المكلف بأخذه الفتوى المؤدّية إليه ، وهو حكم تعييني منجّز عليه ولا معنى معه لبقاء الفتوى الثانية على الحجية التخييرية .
فبهذا يتّضح أن الفتوى الثانية بعدما اتصفت الفتوى الاُولى بالحجية الفعلية من جهة أخذ المكلف بها ، لا يعقل اتصافها بالحجية التخييرية حدوثاً كما لا يعقل بقاؤها عليها ، سواء أ كان المستصحب حجية الفتوى المأخوذ بها سابقاً أو كان هو الحكم الفرعي الّذي أدت إليه الفتوى المأخوذ بها . بل ذلك في الحكم الفرعي أوضح لأنه حكم تعييني منجّز على المكلف بأخذه الفتوى المؤدية إليه ، فإن التخيير إنما هو في الحجية والمسألة الاُصولية دون الحكم الفرعي لتعينه بالأخذ بما أدت إليه . إذن كان استصحاب الحجية الفعلية أو الحكم الفرعي المتنجز معارضاً لاستصحاب الحجية التخييرية الثابتة على الفتوى الثانية كما ذكرناه . وبهذا يظهر أن هناك حكماً فعلياً شرعياً وهو الحكم الفرعي الّذي أدت إليه الفتوى المأخوذ بها وتعبدنا به الشارع بمقتضى حجيتها، فإن حال المقام حال بقية الأحكام الثابتة بالحجج والأمارات الشرعية .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد (الاصفهاني) : 148 .
ــ[100]ــ
ثمّ إن الموافقة الالتزامية وإن لم يقم دليل على وجوبها ، إلاّ أن لتعارض الحجتين خصوصية مستتبعة للالتزام بناءً على القول بالتخيير ، وذلك لما قدّمناه من أن الحجية التخييرية لا معنى لها سوى إيكال أمر الحجية إلى المكلف بحيث يتمكن من جعل ما ليس بحجة حجة ، وذكرنا أن معنى ذلك أن الحجية الفعلية متوقفة على أخذ المكلف واختياره ، ولا معنى للأخذ والاختيار سوى الالتزام بتطبيق العمل على طبق إحدى الفتويين أو غيرهما من الأمارات المتعارضة ، فوجه الحاجة إلى الالتزام في تلك الموارد أن موضوع الحجية التخييرية لا يتحقق من دونه وليس ذلك مستنداً إلى أن التقليد هو الالتزام أو إلى القول بوجوب الموافقة الالتزامية في الأحكام .
ثمّ إن كون الحجية منوطة بالاختيار إنما يخص القول بالتخيير عند تعارض الحجتين، لوضوح أن حجية الحجة إذا لم تكن معارضة غير منوطة بالاختيار بل يتوقف فعليتها على العلم بها فحسب .
وبما سردناه يظهر أن متعلق الالتزام إنما هو الاستناد إلى الفتوى المأخوذ بها في مقام الامتثال ولا يلزم أن يكون متعلقه حكماً تخييرياً كما أفاده (قدّس سرّه) حتى بناء على وجوب الموافقة الالتزامية أو تفسير التقليد بالالتزام ، وذلك أما بناء على وجوب الموافقة الالتزامية فلأن متعلق الالتزام إنما هو الحكم الواقعي ، فإن كان معلوماً تفصيلياً للمكلف فهو ، وأمّا إذا كان معلوماً إجمالياً له فلا مناص من أن يلتزم بالحكم الواقعي على إجماله وتردده .
وأمّا بناءً على أن التقليد هو الالتزام فمن الظاهر أن الالتزام إنما يتعلق بالعمل على طبق الفتوى المأخوذ بها ، والاستناد إليها في مقام الامتثال . والمتلخص أن الالتزام لا يلزم أن يتعلق بالحكم الفعلي أو التخييري ليدعى أن استصحاب الحكم المختار لا يكون موجباً للتعين وأن مقتضى الاستصحاب بقاء كل من الحكمين على ما كان عليه أولاً .
فعلى ما بيّناه يكون استصحاب الحكم الّذي أفتى به المجتهد الأول وكذا استصحاب الحجية التعيينية لفتواه معارضاً باستصحاب الحجية التخييرية لفتوى المجتهد الآخر .
ــ[101]ــ
تتميم : قد أسلفنا (1) أن المعنى المتحصل للتخيير عند تعارض الطرق والأمارات ـ على القول به ـ هو تفويض أمر الحجية إلى المكلف وجعلها تابعة لاختياره ، بحيث يتمكن من جعل ما ليس بحجة حجة بالالتزام بالعمل على طبقه ، فهو تخيير في المسألة الاُصولية أعني الحجية كما تقدم وغير راجع إلى التخيير الواقعي أو الظاهري في الأحكام .
أمّا أنه ليس من التخيير الواقعي في المسألة الفرعية بأن يكون المكلف مخيراً واقعاً بين الاتيان بفعل وتركه أو الاتيان بفعل آخر نظير التخيير في الأماكن الأربعة بين القصر والتمام ، فلأن مفروض الكلام أن الفتويين متعارضتان وقد ذكرنا في محلّه (2) أن معنى التعارض تنافي مدلولي الدليلين بحسب الجعل ، لعدم إمكان جعلهما معاً فيكون كل منهما مكذباً للآخر . إذن لا يحتمل مطابقة كلتيهما للواقع لاستلزامه الجمع بين الضدّين أو النقيضين بل إحداهما غير مطابقة للواقع قطعاً وثانيتهما يحتمل أن تكون مطابقة للواقع كما يحتمل أن تكون مخالفة له وهذا بخلاف التخيير الواقعي في المثال فإن كلاّ من الفعلين واجب تخييري واقعاً .
وأمّا عدم كونه من التخيير الظاهري فللعلم بأن المكلف مأمور بالعمل بفتوى هذا المجتهد معيناً أو فتوى المجتهد الآخر ولا نحتمل أن يكون مخيراً واقعاً بين العمل بهذا أو بذاك ، ومع انتفاء الشك الّذي هو الموضوع للأحكام الظاهرية لا مجال للتخيير الظاهري بوجه .
وكيف كان فالتخيير في المقام من التخيير في الحجية بالمعنى المتقدم ، والمتعارضان حجتان شأنيتان فإذا اختار المكلف إحداهما فصارت فعلية ، وشككنا في أن الفتوى الثانية هل سقطت عن الحجية الشأنية ليزول بذلك التخيير أو أنها باقية بحالها ، فلنا أن نستصحب بقاءها على الحجية التخييرية إلاّ أنها معارضة باستصحاب الحجية الفعلية للفتوى المأخوذ بها ، بل باستصحاب الحكم الفرعي الّذي أدّت إليه الفتوى المذكورة فالاستصحابان متعارضان كما بيّناه . على أنه قد تقدم أن استصحاب الحجية الشأنية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 96 .
(2) مصباح الاُصول 3 : 354 .
ــ[102]ــ
من الاستصحاب التعليقي ولا نقول به (1) .
أدلة القول بعدم جواز العدول
واستدل للقول بعدم جواز العدول أيضاً بوجوه :
الأوّل : الاستصحاب وتقريبه : أن الفتوى المأخوذ بها قد صارت حجة فعلية في حق المقلّد بأخذها ، أو أن الحكم الّذي أدت إليه الفتوى المأخوذ بها قد تعين عليه وحيث لا ندري أن الأخذ أو الالتزام علّة محدثة ومبقية أو أنه محدثة فحسب ، فنشك في بقاء الفتوى المأخوذ بها على حجيتها الفعلية وسقوطها عنها برجوع المقلّد إلى فتوى المجتهد الآخر ، أو نشك في بقاء الحكم الفرعي على تعينه فنستصحب حجيتها الفعلية أو بقاء الحكم على تعينه ، ومقتضى هذا عدم جواز العدول .
وقد ظهر مما بيّناه آنفاً عدم تمامية هذا الاستصحاب لأنه من الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكمية وقد بنينا على عدم جريانها فلاحظ . ونزيده أن استصحاب الحكم الفرعي مضافاً إلى ما يرد عليه من المناقشة المتقدمة غير جار في نفسه ، لأنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المكلف حينما يشك في البقاء متيقناً من المستصحب بحسب الحدوث وهذا غير متحقق في المقام ، لأن المكلف بعدما عدل عن فتوى المجتهد الأول لا علم له بحجية فتواه في حقه لأن اليقين بالحجية إنما هو ما دام باقياً على تقليده .
الثاني : أن جواز العدول يستلزم العلم بالمخالفة القطعية في بعض المواضع ، وذلك كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ غير مريد للرجوع ليومه وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه ، وقلّد المكلف أحدهما فقصّر في صلواته ثمّ عدل إلى فتوى ثانيهما فأتم فيها ، لأنه يستلزم العلم ببطلان صلواته المقصورة أو صلواته غير المقصورة لعدم مطابقتها للواقع . بل لو وقع ذلك في الصلاتين المترتبتين كما في الظهرين مثلاً على ما مثّل به بعضهم ، لعلمنا ببطلان الثانية علماً تفصيلياً إمّا لبطلان الصلاة الاُولى فالثانية أيضاً باطلة وإمّا لبطلان الثانية في نفسها .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 97 .
ــ[103]ــ
والجواب عن ذلك : أن هذه المناقشة لا تختص بالمقام بل تأتي بعينها في موارد العدول الواجب أيضاً ، كما إذا فرضنا في المثال أن المجتهد الثاني أعلم من الأول أو أن الأول مات أو جنّ أو أنه عدل عن فتواه بعدما عمل المكلف على طبقها ، فإن العدول في تلك الموارد واجب ولا إشكال فيه .
والّذي ينبغي أن يقال في حل الشبهة في مطلق العدول : إن المكلف إذا عدل إلى الفتوى المتأخرة فمقتضى القاعدة الأولية أن يعيد أعماله الّتي أتى بها على طبق الفتوى المتقدمة ، لأن بالفتوى الثانية يستكشف عدم كونها مطابقة للواقع من الابتداء . نعم لو قام هناك دليل دلّ على صحة ما أتى به على طبق الحجة السابقة ، أي دلّ على إجزائها عن الواقع ـ كما ذهب إليه بعضهم ـ لم تجب عليه الاعادة لصحتها وصحة الأعمال اللاّحقة المترتبة على صحتها ، وهذا من غير فرق بين أن يكون العدول سبباً للعلم بالمخالفة التفصيلية أو الاجمالية وبين أن لا يكون . وأما لو لم يقم دليل على صحة الأعمال السابقة وإجزائها عن الواقع ، فلا مناص من الاعادة حتى لا يحصل العلم بالمخالفة من غير معذّر . والاجزاء وإن لم يقم دليل عليه على نحو الكلية إلاّ أن حديث لا تعاد على ما قدّمناه في أوائل الكتاب (1) يقتضي عدم وجوب الاعادة فيما إذا كان الخلل الواقع في الصلاة في غير الخمسة المستثناة في الحديث ، لأنه على ما حققناه هناك لا يختص بالناسي كما ذهب إليه شيخنا الاستاذ (قدّس سرّه) بل يعم الجاهل القاصر أيضاً ومن أظهر موارده المقام ، هذا كلّه في وجوب الاعادة وعدمه .
وأما القضاء فحيث إنه بأمر جديد وموضوعه الفوت ، فلا مناص في وجوبه من إحراز الفوت وجداناً أو تعبداً ، فإذا فرضنا أن المجتهد المعدول إليه قد استند فيما أفتى به على خلاف فتوى المجتهد المعدول عنه ، إلى دليل حجة في مدلوله المطابقي والالتزامي ، فلا محالة يثبت به لوازمه ويحرز به الفوت ويجب على المكلف القضاء وأما لو شككنا في ذلك فمقتضى البراءة عدم وجوب القضاء ، فإن استصحاب عدم الاتيان بالواجب في وقته لا يثبت به الفوت .
وقد اتضح بما سردناه أن هذا الدليل إنما يقتضي وجوب الاعادة أو هي مع القضاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ص 33 .
ــ[104]ــ
إذا لم يقم دليل على عدمه ولا دلالة له على عدم جواز العدول .
الثالث : أن العدول يستلزم أحد أمرين على سبيل منع الخلو ولا يمكن المساعدة على شيء منهما :
أحدهما : التبعيض في المسألة الكلّية .
وثانيهما : نقض آثار الوقايع السابقة .
وتوضيحه : أن أحد المجتهدين إذا أفتى بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه، فإذا قلّد المكلف أحدهما فقصّر في صلاته ثمّ عدل إلى الآخر وأتم فيها ، فلا يخلو إما أن نلتزم بصحة كلتا صلاتيه فمعنى ذلك أنه قلد أحد المجتهدين في واقعة من تلك المسألة وقلد الآخرين في الوقايع المستقبلة منها ، وهو معنى التبعيض في المسألة الكلّية ولا دليل على صحة التقليد في مثله . وإمّا أن نلتزم ببطلان صلاته الّتي أتى بها أوّلاً لأنه قد عدل إلى المجتهد الآخر في كلي المسألة ، ومعنى ذلك الالتزام بانتقاض آثار الأعمال الصادرة على طبق الفتوى السابقة ، ومعه يجب على المكلف إعادة الصلوات الّتي صلاّها قصراً لعدم مطابقتها للحجة الفعلية .
وفيه : أن مورد التقليد والفتوى إنما هو المسألة الكلّية دون كل جزئي من جزئياتها فلا يلزم من العدول التبعيض في المسألة الكلّية ، وإنما يلزم منه نقض آثار الوقايع المتقدمة وهو أمر لا مناص من الالتزام به لمخالفتها لما هو الحجة الفعلية على المكلف ، أللّهم إلاّ أن يقوم دليل على إجزائها ، وهذا لا يقتضي عدم جواز العدول وليس في الالتزام به أي محذور ، كما هو الحال في موارد العدول الواجب على ما بيّناه في الوجه السابق فلاحظ .
الرابع : ما عن المحقق القمي (قدّس سرّه) من دعوى الاجماع على عدم الجواز (1) .
ويدفعه : أن الاجماع لو كان محصّلاً لم يكن قابلاً للاستدلال به فضلاً عمّا إذا كان من الاجماعات المنقولة الّتي لا نلتزم باعتبارها ، وذلك للقطع ولا أقل من احتمال أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القوانين 2 : أواخر باب الاجتهاد والتقليد .
ــ[105]ــ
المجمعين استندوا في ذلك إلى أحد الوجوه المستدل بها في المسألة ، ومعه لا يكون الاجماع تعبدياً يستكشف به قول المعصوم (عليه السّلام) .
على أن المسألة من المسائل المستحدثة الّتي لا سبيل فيها إلى استكشاف الاتفاق بل يمكن الجزم بعدم حصوله لذهاب جمع من المحققين إلى الجواز .
الخامس : قاعدة الاشتغال ، وذلك لأن الأمر في المقام يدور بين التعيين والتخيير في الحجية والعقل قد استقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعينه ، وذلك للقطع بأن الفتوى المأخوذ بها حجة معتبرة في حق المكلف وإنما التردد في أنها حجة تعيينية أو تخييرية وذلك للشك في جواز العدول إلى فتوى المجتهد الآخر . إذن حجية فتوى المجتهد الأول مقطوع بها فيؤخذ بها ، وفتوى المجتهد الآخر مشكوكة الحجية والشك في الحجية يساوق القطع بعدمها . والسّر في ذلك أن الواقع منجّز على المكلفين من جهة العلم الاجمالي بالأحكام ، ومعه يستقل العقل بلزوم امتثالها وإتيانها أو إتيان ما جعله الشارع مبرئاً للذمّة تعبداً حتى يحصل به الأمن من العقاب ، فلو اقتصر المكلف حينئذ على ما لم يقطع بحجيته لم يكن مأموناً من العقاب لعدم علمه بامتثال الحكم الواقعي أو الاتيان بما هو مسقط له ومبرء لذمته .
ودعوى : أن استصحاب التخيير يثبت أن العمل على طبق الفتوى الثانية أيضاً مؤمّن ومبرء للذمّة ، فتكون معلوم الحجية كالفتوى السابقة كما عن شيخنا الأنصاري وغيره (1) .
مندفعة بالمنع عن استصحاب الحجية التخييرية للوجوه المتقدمة ولا نعيد ، هذا كلّه بناء على ما هو الصحيح من أن حجية الحجج والأمارات إنما هي من باب الطريقية .
وأما بناءً على حجيتها من باب السببية والموضوعية فالأمر أيضاً كما ذكرناه ، لأن الفتويين المتعارضتين تدخلان في باب التزاحم حينئذ وبما أن الفتوى المأخوذ بها محتملة الأهمية تتقدم على الفتوى الثانية ، ويتعين الأخذ بها لأن الأهمية واحتمالها من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد : 87 .